اقرا ايضا
سعيد يقطين: «الفكر الأدبي العربي: البنيات والأنساق»
إن القول يموت النقد أو يموت الأدب أو أنهما في خطر وما شابه ذلك من التعابير التي بدأت في الظهور منذ أواخر التسعينات، وحتى قبلها، مثل الحديث عن نهاية التاريخ والايديولوجيا وموت المؤلف لا يعني أن الأفكار الأدبية السائدةٌ خاطئةٌ وعلينا الدخول إلى تفكير صائب في الأدب. إن معيار "الخطأ" و"الصواب" في التفكير والممارسة ليس سليمًا. إن عملية التفكير والممارسة ليس سليمًا، إن عملية التفكير في الموضوع (أي موضوع) وليد صيرور تتحقق فيها تراكمات قابلة للتحول. وكلما ظهرت حقبة جديدة، لشروط وسياقات جديدة بدأت بالتحقق، كان لزامًا على التفكير أن يأخذ بأسباب التحول، وينخرط في مواكبته وفق المستجدات والضرورات الجديدة، وبناءًا على ذلك تتغير الأسئلة وتمتد آليات التفكير تبعًا لما تحمله التحولات من معطيات جديدة.
من هنا فإن أصحاب تلك الصيحات (الأوروبية وحتى والأميركية) جاءت في نطاق تحول جذري بدأت ملامحه تظهر منذ أواسط الثمانينيات (في أمريكا). ابتدأ هذا التحول الجذري، أو الابدال الجديد، مع ما صار يعرف ب"عصر المعلومات" أو "العصر الرقمي" أو "التكنولوجيا الجديدة للمعلومات والتواصل" (NTIC)، أي مع ظهور الحاسوب وبرمجياته، باعتباره وسيطًا ل"الإبداع" و"التواصل" أو "التلقي". لقد أدى ظهور التكنولوجيا الجديدة للمعلومات والتواصل ببساطة إلى ظهور أشكال وأنواع أدبية وفنية جديدة تتعدى ما كان سائدًا إلى أوساط الثمانينيات التي شهدت أوّل رواية تستثمر هذه التكنولوجيا الجديدة. ساهم هذا التحول في ظهور علوم جديدة وتطور علوم تبلورت في الحقبة البنيوية، كما ساهم في فتح أفق جديد للتفكير في الأدب ابداعًا وبحثًا. لقد بدأت تتغير ملامح الصور التقليدية للأدب وتدريسه وتحليله، لأنه وببساطة صار هناك منعطف جديد في انتاج الأدب وقرائته وفهمه. لذلك لا عجب أن نجد تودوروف في كتابه "الأدب في خطر" يتحدث عن البنيوية وكيفية تدريس الأدب في الثانوي والجامعة، ويناقش كل المشاكل التي بات يفرضها هذا الواقع هذا الواقع الجديد لكنه، وعلى غرار العديدين من أنصار التصور التقليدي للأدب، بدل أن يلتفت إلى أن العالم أمام حقبة جديدة وأفكار جديدة، راح يناقش القضيا من منظور بعيد عن روح العصر، لقد ظلّ الأدب على صلة دائمة بالحياة، وحتى المنظور البنيوي ظل مهتمًّا بالحياة، بربطه اياه باللغة وبطريقة انتاج الفن والجمال، وكذلك يفهم بنياته وطبيعته. ولذلك، بالإمكان استنتاج أن ليس "الأدب في خطر"، ولكن التصور الكلاسيكي للأدب والفن هو الذي بات ،مثلا في خطر، وليس من معنى لل"الخطر" هنا غير التبدل والتحول.
هذه الصورة هي التي حاول الباحث في عمله هذا، التمثيل لها من واقع الدراسة الأدبية في فرنسا من خلال التركيز على تودوروف، وعمل على توسيعها بالنظر إلى القضية نفسها في الكتابات الفرنسية والأنجلو-أمريكية في الفصل الأول من الباب الأول من هذا الكتاب، هي نفسها التي يجدها الباحث في الوطن العربي، فبدل النظر إلى واقع التمويل الذي بدأ يتم على الصعيد العالمي، ويتم منهجه في ضوء التطور الذي مسّ البشرية، صار التركيز على الظواهر السطحية، وينظر إليها سياسيا على أنها نتاج العولمة، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وجدار برلين وهيمنة القطب الواحد. وهنا يختزل الباحث كل التحولات الجذرية بقوله بأن العالم في مرحلة ما بعد البنيوية، وما بعد الحداثة، وما بعد الاستعمار، وعلينا أن نقطع منها، وننخرط في مرحلة جديدة، تتعدى ما تمت ممارسته في الثمانينيات والتسعينيات، لكن بأي وعي؟ وبأي منظور؟
هذه الإشكالية هي التي يركز الباحث عليها في دراسته هذه في هذا الكتاب، للوقوف على المنعطف الجديد ليتم فهمه في سياق التحولات التي شهدها العصر الجديد، وصولا إلى إعادة صياغة التصور للأدبي منذ عصر النهضة إلى الآن، سواء في الآداب الغربية أو آثارها على الفكر الأدبي العربي لتكون هناك رؤية تاريخية للتطوّر، ليتم بمقتضاها فهم كيف تتطورت الأفكار الأدبية (عالميا) ومدى انعكاسها على تصورنا للأدب وآليات تفكيرنا، لتصحيح المسار، وتغيير الرؤية، واستشراق آفاق جديدة للمستقبل