اقرا ايضا
ناقش الباحث الحبيب استاتي زين الدين أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون
العام والعلوم السياسية، في موضوع: "الحركات الاحتجاجية بالمغرب: حالة حركة
20 فبراير"، يوم السبت 29 أكتوبر 2016؛ بكلية الحقوق مراكش، أمام لجنة علمية
مكونة من السادة الأساتذة: الدكتور عبد المالك إحزرير رئيسا ومقررا، والدكتور محمد
بنطلحة الدكالي مشرفا، والدكتور رشيد العلمي الإدريسي مقررا، والدكتور إدريس
لكريني مقررا، والدكتور محمد الغالي عضوا. وبعد المداولة نوّهت لجنة المناقشة بالأطروحة، وقررت منح الباحث لقب دكتور في الحقوق،
بميزة مشرف جدا مع التوصية بالطبع.
إن اختيار
"الحركات الاحتجاجية بالمغرب: حالة حركة 20 فبراير" موضوعاً لهذه
الأطروحة، أملته اعتبارات متعددة، يأتي في مقدمتها ضرورة التفكيك والتحليل العلمي للحركات
الاحتجاجية التي صارت ظاهرة متجذرة في الثقافة المجتمعية، وتجرّ وراءها عقودا من
الفعل والممارسة والتراكم، وخضعت للتكييف المستمر بالمغرب، منذ نهاية القرن التاسع
عشر وبداية القرن العشرين، ولا زالت تخضع لتطور واضح في كيفية تعبير الشعب المغربي
عن اهتماماته ومشاغله، وأيضا طموحاته في الزمن الراهن. وما يلفت الانتباه في هذه
الممارسة هو الرصيد الإضافي من النضج التنظيمي والتعبوي الذي اكتسبته، فضلا عن
تنوع مضامينها وأشكالها ومجالاتها رغم الحديث بصيغة الماضي عن اليسار والحزب
والنقابة. وهي بهذا
التنوع تحوّلت إلى استراتيجية مهمة يُستعمل فيها الشارع العام للتعبير عن الرفض
والاعتراض والمقاطعة والاختلاف والصراع الاجتماعي والسياسي القائم داخل المجتمع. لذلك، تحظى
دراسة الحركات الاحتجاجية بأهمية خاصة، ليس فقط من حيث
الراهنية والحضور القوي والمكثف للفعل الاحتجاجي على مستوى الإعلام، والعديد
من المراكز البحثية الرسمية أو
غير الرسمية ذات الارتباط بالسوسيولوجيا، أو
التاريخ، أو القانون، أو العلاقات الدولية، أو العلوم السياسية، وإنما، وهذا هو الأهم، بسبب الحمولات والدلالات المختلفة
التي يحملها، إلى جانب القدرة على التغيير التي أصبح يتميز
بها.
ولعلّ القيمة
العلمية لهذا الموضوع ستتضح معالمها عبر تحديدنا للأهداف المراد تحقيقها من هذه
الأطروحة، والتي تتقاطع في مجملها مع ما يشكو منه البحث العلمي ببلادنا من ضعف كمي
كبير في مجال الحركات الاحتجاجية، وغياب شبه تام للتأصيل لظاهرة الاحتجاج الشعبي
على مستوى تطوراته التاريخية، ومدى تأثره بالبنيات السوسيو-سياسية والاقتصادية
المحلية والخارجية، لأسباب موضوعية ذات صلة بندرة المراجع، وبالتحفظات المترسِّبة
في الوعي الجمعي للمجتمع حيال النتائج المدمِّرة التي خلفها الاحتجاج السياسي
التصادمي الذي طبع جزءا مهما من تاريخ المغرب في القرن الماضي. وقد انعكست هذه
المسألة بالسَّلب على القراءة العلمية للاحتجاج بالمغرب، وظل التعامل مع الموضوع
تغلب عليه التعميمات، وأحيانا التجزيء الفجّ بين الأحداث، خصوصا في حالة ربطه
بالسلطة السياسية، وحتى تحويل مفهوم الحركة الاحتجاجية إلى مصطلح فضفاض يصف ظواهر
مختلفة أو متشابهة من دون دقة علمية، والاطمئنان إلى المقتربات النظرية الكلاسيكية
لتفسير مسبِّبات الاحتجاج، بمعزل عن التطـورات العلمية التي لحقت هـذه التفسيرات،
بالإضافة إلى تغليب المنطــق الأمني أو السياسي لفلسفة المواثيق الدولية وروح
الدستور. باستحضار
هذه النقاط، تسعى هذه الأطروحة إلى بلوغ مجموعة من الأهداف، على رأسها التأصيل
العلمي للحركات الاحتجاجية على مستوى التاريخ والاصطلاح والتراكمات النظرية التي
حققتها السوسيولوجيا السياسية، ثم الكشف عن جوهر الفعل الاحتجاجي بالمغرب، من خلال
تتبع مساره التطوري، وتحديد العوامل الرئيسية المتحكّمة فيه، مع التركيز على واقع
الحركات الاحتجاجية التي عاشها المغاربة منذ الاستقلال إلى حدود سنة .2015 بالإضافة
إلى إبراز
خصائص التجدد والاستمرارية التي تميز هذه الحركات، ومعرفة طبيعة العلاقة بين
تعذُّر انتقالها إلى حركة اجتماعية، وهشاشة السياسات العمومية والتنمية المحلية
والديمقراطية التشاركية، فضلا عن فهم حيثيات وخلفيات انخراط شباب حركة 20 فبراير
في موجة الحراك المغربي سنة 2011، وتحديد مكونات هذه الحركة، والمطالب والشعارات السياسية
التي حملتها، والنتائج المتشعبة التي آلت إليها، والآفاق التي فتحتها، إلى جانب
فحص الجانب القانوني الذي ينظِّم الحق في حرية الاحتجاج السلمي بالمغرب، بالوقوف
عند الضمانات القانونية التي تتيحها المواثيق الدولية والتشريعات الوطنية، وبعض
النماذج من الاجتهادات القضائية، دون إغفال كيفية التدبير الميداني للممارسة
الاحتجاجية من قبل الأجهزة الأمنية، وأخيرا وضع الفعل الاحتجاجي ببلادنا تحت مجهر
النظريات التفسيرية الخمسة التي أنتجها علم الاجتماع السياسي.
والأكيد أن هذه
الأهداف لا تخرج عن الإشكالية المركزية التي تحاول هذه الدراسة أن تلامسها،
والمتمثلة في التساؤل الآتي: إذا
أصبح الفعل الاحتجاجي متجذِّرا في الثقافة المغربية، أليس هذا مؤشرا على ضعف
التنمية والديمقراطية وهشاشة منظومة الوساطة التمثيلية والنقابية والسياسية
والمدنية؟ وإلى أيِّ حدّ يمكن القول أن تنامي هذا الفكر وتحوُّله التدريجي من
الاحتجاج على السياسات العمومية إلى الطلب السياسي دليل على فشل الدولة الاجتماعية
في المغرب؟
للإجابة عن
الإشكالية المطروحة، انطلقت الدراسة من فرضيتين:
§
الاختلالات
التي راكمها المغرب على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي منذ الاستقلال إلى
اليوم، تبقي المداخل المُحفِّزة للحركات الاحتجاجية مفتوحة على كل الاحتمالات؛
§
رغم ما أثبته
مفهوم الجديد للسلطة من فعالية، في بعض الحالات، لا زال يُدبَّر وفق مقاربة أمنية
مهووسة بهاجس المحافظة على النظام العام وضمان ثباته وهدوئه، بغض النظر عن ضرورة
احترام الالتزامات الحقوقية الدولية والتعاطي الإيجابي مع القوانين الوطنية
المنظِّمة للحق في حرية الاحتجاج السلمي.
للتحقق من
هاتين الفرضيتين، وبلوغ نتائج موضوعية بخصوص الأهداف التي سبق تحديدها، تسعى هذه
الأطروحة إلى التفكير في مسارات تحوُّل الحركات الاحتجاجية بالمغرب، بالاعتماد على
المنهج التاريخي الذي يُعنى بالبحث في أسباب نشوء وتطور هذه الحركات، سواء من خلال
ما يُعرف بالمراجعة الخلفية لتحريك الظاهر أو الدورة التعاقبية، والمنهج النسقي
على اعتبار أن الاحتجاج كظاهرة مجتمعية، تثير علاقات التأثير المتبادل الموجود بين
مجموعة فاعلين لهم موقف واضح من قضية أو قضايا معيّنة، وهو الموقف الذي يُترجم
غالبا في ملف مطلبي موجَّه إلى طرف محدَّد يُعتقد أنه معني به والأقدر على
الاستجابة إليه وحلّه جزئيا أو كليا، وهذا الطرف بدوره يحمل مواقفا، وله توجهات،
لكنه، بالنظر إلى ميزان القوى القائم، فهو المُطالَب بالتفاعل مع ما يتطلع إليه
المشاركون في الاحتجاج، بغرض المحافظة على اتساق واستقرار النظام الاجتماعي. ولئن
كان من الضروري، ونحن بصدد معالجة الظروف العامة والخاصة التي تحكمت في الحراك
المغربي، من خلال حالة حركة 20 فبراير، الانفتاح على التجربتين التونسية والمصرية،
تمّت الاستعانة بالمنهج المقارَن لفهم المسبِّبات المشترَكة للاحتجاجات الشعبية،
إلى جانب الوقوف على الخصائص المميِّزة للحالة المغربية. ولم
تقف الاستعانة بالمقارنة عند هذا الحد، بل تعدّته إلى رصد أوجه التشابه والاختلاف
بين مختلف الحركات الاحتجاجية التي عرفتها بلادنا، للتعرف على المظاهر الثابتة
والمتغيرة في الفكر الاحتجاجي للمغاربة. والجدير بالذكر أن هذا التعدد المنهجي
يندرج في إطار "وحدة المنهج العلمي"، كما يقول "كارل بوبر" Karl
Popper، الذي وإن كان يعترف بوجود مناهج متعددة بتعدد الظواهر في العلم
الواحد، إلا أنه يقول أن كل هذه المناهج تنتمي إلى منهج علمي واحد، حيث ترجع إلى
التفسير والتنبؤ والاختبار.
وتوخياً
للإحاطة العلمية الشاملة التي يقتضيها موضوع بهذا الحجم، تم تقسيم هذا البحث إلى
فصل تمهيدي وقسمين؛ قَارَبَ الفصل التمهيدي موضوع الاحتجاج من الزاوية
الأنثروبولوجية والبنية المفاهيمية والنظريات التفسيرية، بينما تمّ التركيز في
القسم الأول على التحليل النظري لأبرز مراحل تطوُّر الفكر الاحتجاجي بالمغرب، قبل
سنة 2011، قصد معرفة أهم مميِّزاته، على مستوى تعبيراته ومضامينه والعوامل
المتحكِّمة فيه. أما القسم الثاني، فخُصِّص لدراسة حالة حركة 20 فبراير، من حيث
سياق النشأة، وطبيعة المطالب والفاعلين، ومساراتها ومآلاتها المختلفة، إلى جانب
مقاربة فعل الاحتجاج، من خلال البعد القانوني، وكذلك الإطار النظري، في ضوء ما
أنتجته السوسيولوجيا السياسية من مداخل تفسيرية حول موضوع حركات الاحتجاج.
سمح لنا هذا
التقسيم، في نهاية البحث، بتسجيل مجموعة من الخلاصات، على مستوى مصطلح الحركة
الاحتجاجية، وتطور الحركات الاحتجاجية بالمغرب، وسياق ومسار ومكونات ومآل حركة 20 فبراير، والتدبير الأمني للاحتجاجات، والإطار القانوني المنظم
للحق في حرية الاحتجاج السلمي، أو بخصوص إخضاع الفعل الاحتجاجية ببلادنا للنماذج
التفسيرية التي أنتجها السوسيولوجيا السياسية الغربية.
أولا، الحركة الاحتجاجية هي الظاهرة المجتمعية الحاضنة لكل
فعل وسلوك تمردي وانتفاضي أو ثوري. غير أن هذا
الاحتضان لا يجعل منها تمردا ينحصر بين العفوية والعنف والتلاشي السريع، ولا هي ثورة متصاعدة أو فتنة أو
خروجا ينتهي بتقويض نظام قـديم لدولة قائـمة وتـعـويضه بآخـر حـديـث، كـما
أنها ليسـت انتفـاضة مـوجَّهة
لثني قــوة داخلية أو خارجية على التمادي في تسلّطها على جماعة تجاهد بصمودها
وصبرها بغية التحرر، ولا هي عصيان مدني تقوده نخبة تجيد قواعد اللعبة السياسية
وتجنح لخيارات ومصالح براغماتية مؤقتة. فالحركات الاحتجاجية ليست كذلك بسبب التسمية طبعا،
بل بالنظر إلى خصائصها، وتعبيراتها اللغوية والجسدية التي يوجِّهها المحتجون نحو جهة ما،
يفترض توتر العلاقة بينهما بخصوص سوء توزيع منافع ومصالح الحقل الذي ينتمون إليه جميعا. قد يكون هذا
التوتر حاضرا في الأشكال السابقة، لكن التسمية تظل رهينة بالمسار والمآل الذي يمكن
أن تسلكه. فهي عبارة عن مجموعة من الأفعال الجماعية
التي تتمايز عن الأنشطة التنظيمية والمؤسسية. إنها
عملية استعمال واحتلال الجماهير للفضاء العام، بهدف التعبير عن المطالب ذات
الطبيعة الاجتماعية أو السياسية، خارج المؤسسات والتنظيمات التقليدية، أي بالشارع العام، عن طريق الوقفة،
أو الاعتصام، أو المسيرة، أو المظاهرة، أو الإضراب عن العمل أو عن الطعام، أو
التهديد بالانتحار، أو التجمع الخطابي العلني، أو المقاطعة، وغيرها من أشكال
الاحتجاج الجماعي.
ثانيا، حيث تنقّل
الاحتجاج، طيلة العقود
الستة الماضية، بين ثلاثة أجيال، لكل منها خصائص ينفرد بها. ارتبط الجيل الأول من الاحتجاجات الشعبية بزمن الاستئناس الممنوع للاحتجاج، في ظل القمع
العسكري الدموي، والعنف المتبادل الذي يترجم حجم التسييس الذي تعرضت له الممارسة
الاحتجاجية، في فترة ما قبل التسعينيات، من قبل الدولة والأحزاب السياسية المعارضة
والتنظيمات النقابية التابعة. أما في زمن التسعينيات، فقد بدأت تطفو
على السطح، مع تشكيل الجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين في المغرب،
الإرهاصات الأولى لاستراتيجية احتلال الشارع العام، في الجيل الثاني، كمؤشر على
انتقال السياسة من الفضاء التقليدي المحتكَر من قبل الفاعلين السياسيين إلى فضاء
الاحتجاج غير التعاقدي، تزامنا مع ظهور أنماط جديدة من الاحتجاج (الحركة
النسائية-الحركة الإسلامية-الحركة الأمازيغية-حركة المعطلين…)، سرعان ما تزايد
إيقاعها، وتنوعت أشكالها ومطالبها، خلال السنوات الأربع لحكومة التناوب، لتحل الوقفة والمظاهرة والمسيرة السلمية والمنظمة
المطالبة بالحق في التواجد بالفضاء العام، محل التمرد والإضراب غير المتحكم فيه،
ويبدأ القمع الأمني في التعود على هذه الأشكال الاحتجاجية الجديدة، وتخفيف حدة
تدخله العنيف تجاه المحتجين. وفي الجيل الثالث، حَدثَ تحول كمي
ونوعي في الاحتجاج، إذ تضاعف عدد الحركات الاحتجاجية في الوسطين القروي والحضري،
وانضمت إليها مختلف شرائح المجتمع، بما فيها بعض الفئات التي كانت ممنوعة من
النزول إلى الشارع (بعض رجال الجيش، الأمن، الأئمة، القضاة…)، كما بدأ يتجه
الاحتجاج تدريجيا نحو الحكومة، باعتبارها المسؤولة المباشرة عن إعداد وتنفيذ
وتقييم السياسات العمومية، بعد أن ظل الاحتجاج السياسي، في السنوات السابقة، يحمّل
الملكية فشل العمل الحكومي في تحقيق البرامج والمخططات التنموية التي وضعها.
وبفعل
هذا التحول المزدوج، شهدت وظيفة الشارع انزياحا، من ناحية، نحو التظلم العلني عن
محدودية السياسات العمومية في تحقيق التنمية بمختلف مناطق المغرب، بما فيها المدن
الكبرى التي تمتص نسبة كبيرة من استثمارات الدولة في مجال الضبط الأمني والتهيئة
العمرانية، منذ ظهور بوادر الانفراج السياسي الذي انطلق بالمغرب بعد التوافق الذي
حصل بين المؤسسة الملكية والمعارضة اليسارية في نهاية الثمانينات. ومن ناحية
ثانية، نحو استقلالية الحركات الاحتجاجية عن الأحزاب السياسية والنقابات، مع ما
صاحب ذلك من بداية تعميق الهوّة بين الاحتجاجات الشعبية وهذه التنظيمات.
ثالثا، سيظهر هذا التحول الوظيفي في المجال العام، بشكل واضح
مطلع سنة 2011، تزامنا مع
دينامية 20 فبراير المغربية التي أعادت الطلب السياسي إلى الواجهة. فبعد تتبع مراحل تطور حركة 20 فبراير، ودراسة أرضياتها التأسيسية
المختلفة، وتحليل أهم الشعارات التي رفعتها في مسيراتها، يظهر
أن حركة 20 فبراير تُعرِّف نفسها باعتبارها حركة احتجاجية سياسية، تفاعلت مع موجة التحولات الإقليمية التي
أحدثها الحراك العربي مطلع سنة 2011، وتأثرت بخصوصية الدولة والمجتمع، وأثّرت فيهما في ذات الوقت، للتنديد بثنائية الفساد
والاستبداد بالشارع العام. وأخذا بناصية الحذر الابستمولوجي الذي
يقتضيه التعامل مع مسار ومآل حركة لا زالت تتفاعل ديناميتها مع مجريات الأحداث،
للتخفيف من بعض الالتباسات والأحكام المتسرعة التي سقطت فيها العديد من الدراسات
بخصوص نتائج الحراك الاجتماعي والسياسي بالمغرب، يمكن القول على إنه بالرغم من أن
الحركة لم تفلح في التحول إلى حركة جماهيرية لها امتداد شعبي، فقد شكلت
احتجاجاتها، بالمقارنة مع التحركات
الحزبية، المحك الحقيقي لمدى جدية الإصلاحات التي باشرها المغرب في السنوات
الأخيرة، ومدى فاعليتها وأهميتها، بل لعلها في بعض جوانبها مساءلة لما
اصطلح عليه بالانتقال الديمقراطي، والفاعل الأساسي في ما عرفه المغرب من تحول
دستوري وسياسي. لذلك، فتفسير وفهم تراجع الحركة رهين باستحضار
مجموعة من العوامل، جزء منها خارجي مرتبط بتطور الحراك الإقليمي على المستوى العربي والمغاربي،
وجزء آخر محلي صرف، يتوزع هو الآخر على قسمين، أحدهما داخلي يتعلّق بطبيعة تركيبة
الحركة نفسها، وقسم ثان خارجي يتصل بخصوصية النظام السياسي المغربي. فمقابل خبرة
وذكاء وتدبير هذا الأخير، وما نجم عنه من قدرة على الأخذ بزمام المبادرة، كانت
الحركة أسيرة هشاشتها التنظيمية والسياسية، التي تجلّت في عدم قدرتها على تدبير
الخلافات الإيديولوجية بين مكوناتها، وأيضا في الصراع على الزعامة، مما شلّ قدرتها على إنضاج مبادرة سياسية تدفع بها نحو
الأمام. بمعنى
آخر، لم تُنهَك قوى الحركة "من الخارج" فقط بفعل الاستراتيجية التي
اتبعتها المؤسسة الملكية، بل وجدت نفسها، مع مرور الوقت، تحت نوع آخر من التأثير،
يسمّيه ابن خلدون، إذا جاز لنا استعارة ذلك، بـ"الهزيمة من الداخل". من ثمة، فأيّ قراءة للوضع الذي أصبحت
عليه الحركة، ينبغي أن يستحضر مختلف التحولات في المواقف التي ميزت الجهات التي
شاركت، في وقت من الأوقات، بحماس في اتجاه دعم تجربة مغربية بامتياز، أكدت بأن
بإمكان الحركات الاحتجاجية المغربية انتزاع مجموعة من المكاسب، سبق للقنوات
التقليدية النقابية والسياسية أن فشلت في بلوغها.
رابعا، يسجل البحث تضافر متغيرات متعددة فرضت على سلطة الضبط (وزارة الداخلية ومختلف مصالحها
الداخلية والخارجية) التوفيق بين الحق في التظاهر والتجمع السلمي، واحترام النظام
العام؛ وهو ما يفسر إلى حد ما تحولها من طرف دائم إلى
«وسيط بين طرفين»: يفاوض ويحاور ويتوسط بين المحتجين والجهة موضوع الاحتجاج. غير أن ما
تجدر إليه الإشارة في هذا التحول، الذي يعبر عن تمثل
وزارة الداخلية للمفهوم الجديد للسلطة، أن قوّات الأمن لا زال يحرّكها الهاجس
الأمني المتمثل في تحرير الفضاء العام، لأن جواب قوات الأمن عن أيّ رسالة احتجاجية
لا يحمل استجابة تامة أو حلا نهائيا لها، بالقدر الذي يتوخى ربح المزيد من الوقت
وإرجاء قرار التدخل العنيف إلى حين التأكد من صعوبة الاستجابة للوعود التي أسفر
عنها الحوار.
خامسا، يعزى التدخل الأمني في
الكثير من جوانبه للخلط القانوني الموجود بين الوقفة الاحتجاجية
التي يفضّلها المحتجون وباقي أشكال التجمعات العمومية (الاجتماعات العمومية،
والمظاهرات، والتجمهر)، والشاهد على ذلك الوقوف عند انقسام الاجتهاد القضائي بخصوص قضايا الوقفات
الاحتجاجية إلى فريقين؛ أحدهما يُخرج هذا الشكل الاحتجاجي من دائرة أشكال التجمعات
العمومية التي تحدّث عنها القانون 76.00، وهو بذلك لا يعتبر المشاركين في وقفة
احتجاجية حافظت على سلميتها، وظلت ثابتة بمكان معيّن في الفضاء العام، وغير متحركة
بالطريق العام، متظاهرين أو متجمهرين، ومن ثمة ذهب اجتهاد الفريق الأول من القضاة،
في هذه الحالات، إلى عدم تجريم هذا الفعل الاحتجاجي في ظل الشروط السابقة، بيد أن
الفريق الثاني، ومن داخل نفس هذه الشروط، سار في اتجاه التكييف القانوني للوقفة
الاحتجاجية على أنها مظاهرة، وهي بذلك شكل
من أشكال التجمعات العمومية، وجب التصريح المسبق بها لدى السلطات المحلية، لتجنب
قرار المنع.
هذا الاختلاف بين الفريقين لا يترتب عنه استمرار أوجه الغموض وعدم الحسم في
الطبيعة القانونية للوقفة الاحتجاجية فحسب، بل يترك الباب مفتوحا أمام الإدارة
الأمنية لتأويله دائما لصالحها، بشكل لا يخدم الحق في حرية الاحتجاج السلمي. وعليه،
تبرز الحاجة الماسة إلى ضرورة التفكير في مراجعة شاملة لقانون التجمعات العمومية بالمغرب، بهدف تجويد النص من جهة، لأنه
يبقى مدخلا أساسيا لتعزيز الشرعية، وترشيد الحكامة الأمنية سواء في الظروف العادية
أو عند حدوث أزمات من جهة ثانية.
سادسا، إن الاحتجاج المغربي، بحكم الحمولات
التاريخية والمجتمعية والسياسية والقانونية المختلفة التي يعبر عنها، إلى جانب طابعه المركب، الذي يقرأ من حيث تنوع
دوافعه ومطالبه ورهاناته، يسمح
باستخلاص صعوبة إخضاعه لتفسير واحد من قبل هذه النظرية أو تلك التي أنتجتها السوسيولوجيا
السياسية (نظرية الحرمان النسبي، وأطروحة الصراع الطبقي، ونظرية تعبئة الموارد،
والفرص السياسية، والتأطير). وإذا تفحصنا مجموع الوقائع التي تشهد تطور هذه الحركات بالمغرب، منذ مرحلة ما بعد
الاستقلال إلى اليوم، نجد أن الدوافع متداخلة، بحيث تتفاعل، مثلا، فكرة التهميش والكرامة، أو صيغتها
السلبية "الحُكْرَة" في
الخطاب المطلبي لسكان المدن الصغيرة، وفي فضاءات ضواحي المدن المتوسطة والكبيرة،
وفي المناطق القروية، مع قدرة الفاعلين على تأطير الاحتجاجات الاجتماعية وتنظيمها،
حول مصالح اقتصادية، وترابية، وإثنية، أو رمزية، وذلك عندما تسمح الشروط السياسية
بذلك. وتؤكد حركة
20 فبراير بدورها هذا الغنى
التفسيري، وهي التي استثمرت الحرمان الذي تعاني منه فئات عريضة من الشعب المغربي،
واستمرار الفروقات الاجتماعية القائمة داخله، لتعبئة مواردها وإضفاء المعاني على
الفرص السياسية التي أتيحت لها، دون أن ننسى أنها استطاعت، على خلاف كل الحركات
السابقة، أن تخلق توافقا، وإن كان هشا، بين
إيديولوجيتين متناقضتين، أجمعا في وقت من الأوقات على الاستفادة من أخطاء الماضي
لبناء الحاضر والمستقبل.
إن هذا
النوع من التئام الإيديولوجيات أو تتثاقف الأجيال الذي عبّرت عنه الحركة يعزّز
ضرورة تعميق البحث في هذه النظريات التفسيرية في أفـق فهم أفضل للحركات الاحتجاجية
في المستقبل، خصوصا أن معالم ومؤشرات فعل احتجاجي جديد بدأت تلوح في الأفق،
من خلال تزايد واتساع للفئات المحتجة، وللرقعة الجغرافية للاحتجاجات، بما يفيد أن
التراجعات والانكماشات الكامنة داخل المجتمع الاحتجاجي سرعان ما قد تعود بقوة.
ولعل الدرس
المستفاد من دلالات وأبعاد الممارسة الاحتجاجية واتساع فرص وبدائل استراتيجية
استثمار الفضاء العام منذ الاستقلال إلى اليوم، أنه سيكون علينا أن نتذكر أن
التأخير في إصلاح أعطاب المجتمع الاقتصادية والاجتماعية، قد يهدّد، في أي وقت،
السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي ببلادنا، بالنظر، أساسا، إلى وجود خلل بنيوي
في وساطة اجتماعية وسياسية، تعتبر في الظاهر أحد مظاهر ضعف الرابط الاجتماعي،
وتكشف في العمق عن هشاشة مستوى الثقة، الذي يتجلى من الناحية السياسية في أزمة
العلاقات القديمة التي محورها الأعيان، وأطر الوساطة التقليديين، بالإضافة إلى
تشتت الحقل السياسي، واشتغاله بمنطق "شخصنة" البرغماتية، فضلا عن تنامي
معدلات البطالة في صفوف شباب حضري متعلم، مشحون بحمولات سيكولوجية وقيمية وثقافية،
تنظر بالسَّلب إلى السياسة، وإن ثبت سنة 2011 أن هؤلاء الشباب يصعب إدراجهم، من
جانب علم السياسة، في خانة العازفين عن المشاركة السياسية، إنّما من يمارسها عمليا
بطريقته.
لكن ما يجدر
الانتباه إليه هو أنه بالرغم من جاذبية الحركات الاحتجاجية، بوصفها تجسيدا للفعل
التواصلي والممارسة الديمقراطية بالمعنى الذي نحته "يورغن هابرماس"
للفضاء العام، يحذِّرنا "آلان تورين" من مخاطر "المجتمع
الجماهيري" الذي يُولِّد مجتمع مستهلكين متفرّدين ومنعزلين في شكل
"عشائر" أو "طوائف" منغلقة في دفاعها عن كيانها، باسم حـرية
العيـش والتفـكـير وتنظيم أنفسهم على النحـو الـذي يـريدونه. ولربما صعود الحركات
الاحتجاجية مرة أخرى، بعد أربع سنوات من مرحلة الحراك المغربي، بصيغة الدفاع عن
المصالح الفئوية (في حالتي طلبة كليات الطب والأساتذة المتدربين) والمحلية (مثل
حركة الشموع بطنجة ضد غلاء فواتير "أمانديس")، وبصيغة الممارسات
السياسوية والشعبوية (مسيرة الدار البيضاء الأخيرة) تكشف حجم إمكانات ومخاطر الحركات
الاحتجاجية حاضرا ومستقبلا.
إرسال تعليق
ضع تعليقك هنا