اقرا ايضا
عالم الاجتماع ميشو بيلير.. تظاهر باعتناق الإسلام وحفظ القرآن وتزوج من مغربية..سليمان الريسوني
“في طنجة بدأ يرتدي في منزله “القميص المغربي والفرجية والجلابة” ويغطي رأسه بشاشية حمراء، ولكنه لما استقر بالقصر الكبير كثيرا ما كان يخرج “مجلببا مسلهما ومعمما” ومتأبطا لبدة حمراء كما كان يُكثر الجلوس بمسجد سيدي المجولي”.
لا يتعلق الأمر، كما يبدو للوهلة الأولى، من هذا المقتطف من مقال للمؤرخ عبد القادر الخلادي، نشرته مجلة “دعو الحق” سنة 1972، بقطب صوفي زاهد، ولا بأحد رجالات المخزن… بل بالمؤرخ والسوسيولوجي الفرنسي ميشو بيلير، الذي عاش قرابة نصف قرن بين المغاربة كواحد منهم، يأكل ما يأكلون ويلبس ما يلبسون، ويرتاد ما يرتادون من أسواق ومواسم، وزوايا ومساجد، يتحدث لغتهم ويتزوج من نسائهم. يقرح لأفراحهم ويحزن لمآسيهم… الفرق الوحيد هو أن ميشو بيلير كان يضمر أشياء لم يُفصح عنها لؤلائك المحيطين به من عامة المغاربة؛ فقد كان ينقل عادات المغاربة وسلوكاتهم، وطرق عيشهم، وتفاصيل اعتقاداتهم، وأساليب تنظيمهم، وأصول عائلاتهم… ثم يدونها لإطلاع من وضعوه لهذه المهمة على تفاصيلها.
العالم الجديد..
نهاية القرن التاسع عشر، قررت فرنسا التي كانت تحرز تقدما في الحرب العالمية الأولى، أن يكون لها موطئ قدم في إفريقيا وفي المغرب تحديدا. وكان من قرر هذا هو وزير خارجيتها الشهير تيوفيل دولكاسي (Théophile Delcassé) مهندس الاتفاق الودي بين فرنسا وانجلترا لسنة 1904.
بعد هذا الاتفاق بخمس سنوات سوف يحسم دولكاسي التردد الفرنسي بقراره الشهير: “إن الجغرافيا والسياسة والاستراتيجية، وكذا وسائلنا المادية تفرض بالضبط تحديد إمبراطوريتنا في إفريقيا. وإني لأرى من الضروري أن يكون المغرب الأقصى جزءً من تلك الإمبراطورية”.
هكذا وبدلا من أن تبعث فرنسا جواسيس ورجال استخبارات لمدها بتقارير مبتسرة وسطحية، أرسلت علماء من مختلف التخصصات العلمية، لم يتوانوا عن زيارة أبعد المناطق المغربية، مهما كانت خطورة سكانها وصعوبة مسالكها، وكان أهم شيء يُسهل مأمورية اندماج هؤلاء العلماء وسط “السكان الأصليين” هو ارتداء ملابس “الأهالي” والأكل من موائدهم، ثم، وهذا هو الأهم، ممارسة طقوسهم.
كانت مدينة طنجة، نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، قد تحولت بفعل موقعها الاستراتيجي إلى مرفأ دولي وملتقى للتجار والمضاربين والمهربين، والمستعربين والفنانين، ومعبرا لكل من يريد الذهاب إلى إفريقيا… لذلك سوف تكون فرنسا من أكبر الدول استيعابا لأهمية طنجة، ومن أكثرها نشاطا في هذا المتروبول الإفريقي الناشئ.
في هذه الفترة بالضبط سوف ينصح إمبراطور الصحافة الفرنسية “بول بوردو” ممثل فرنسا بالمغرب بأهمية تكثيف الوجود الفرنسي بطنجة، لأن “مستقبل إفريقيا الفرنسية، بل مستقبل العظمة الفرنسية يوجد بطنجة، فهي حجر زاوية إمبراطور ومحك حيويتنا، ولذا صارت الهدف لسياستنا، والمسرح الأنسب لنشاطاتنا الديبلوماسية”.
داخل هذه الأجواء، سوف يطأ، سنة 1884، العالم السوسيولوجي والمؤرخ إدوارد ليون ميشو بيلير أرض طنجة. لم تحرك بيلير في زيارته هاته هواجس علم الاجتماع، ولا أية رغبة علمية، بل إن الرجل لم يخطُ إلى الضفة الجنوبية لأوروبا إلا هروبا من صقيع فرنسا العليل.
“الحاج عبد السلام بيلار”..
في طنجة، اشتغل ميشو بيلير، في البداية، ممثلا للشركة التجارية “Comptoir Générale Français” وبعد استقراره بمدينة القصر الكبير أصبح يراسل جريدة “Le Réveil du Maroc” التي كانت تصدر من طنجة. شيئا فشيئا دمج ميشو بيلير بن ساكنة طنجة، بعدما سكن بحي مرشان المطل على الضفة الأوروبية من حوض الأبيض المتوسط، حيث صار معروفا بين الأهالي بـ”ولد القاضي” اعتبارا لكون والده كان قاضيا بفرنسا، “أما في القصر الكبير فكان يُخاطب بـ”الحاج عبد السلام بيلار” كما أُخبرت أنه “شوهد” قبل الحماية بمدة في مدينة وزان مرتديا الزي المغربي وممتطيا حصانا وحوله جمع غفير من العوام يتبركون بتقبيل أطرافه” يقول المؤرخ عبد القادر الخلادي.
في مدينة القصر الكبير سيتزوج ميشو بيلير من امرأة “قصرية” اسمها “الحاتمية”، وسيسكن وإياها بدرب سيدي الهداجي بحي الشريعة، حسب ما حكاه لي العربي العسري، الباحث في تاريخ مدينة القصر الكبير.
ويروج بين أهالي المدينة أن ميشو بيلير كان قد اعتنق الإسلام وعاش لزمن بإحدى القرى القريبة من المدينة، وفيها تعلم العربية وحفظ القرآن، وصار يؤم الناس للصلاة، بحيث كان القصريون ينادونه بـ”الفقيه بيلار”.
هذا الأمر ينفيه المؤرخ عبد القادر الخلادي الذي يقول إن ميشو بيلير “كان “لادينيا لا يصلي ولا يصوم”، ويضيف الخلادي: “كما أكد لي ابن أحد مستكتبيه، عاشره مدة طويلة بطنجة وسلا، أنه ما رآه دخل مسجدا للصلاة أو سجد لله في منزله”.
عالم اجتماع بقرار عسكري
بعدما قضى ميشو بيلير ثمان عشرة سنة في البحث السوسيولوجي، بعيدا عن أي تكليف إداري، أو أية مهمة رسمية، ستعمل الإدارة الفرنسية سنة 1907 على تعيينه على رأس “البعثة العلمية بالمغرب” وهو الاسم الذي كانت فرنسا تطلقه على المجموعة المكلفة بإعداد الدراسات والتقارير حول أحوال المغاربة وطرق عيشهم وبنياتهم الاجتماعية والاثنولوجية، فكان بيلير يعيش بين طنجة والقصر الكبير، باحثا في القبائل والعائلات والزوايا… واستمر على هذا الحال إلى حدود سنة 1925، حين “اختارته الإقامة العامة لتسيير القسم الاجتماعي التابع لها وعينته مستشارا في الشؤون الأهلية، فسكن بسلا (بدار البزاز) قرب الجامع الكبير فجعل من منزله مقرا لأعماله ونظّم في بعض غرفه خزانة للكتب والمراجع والوثائق التي كان قد أتى بها من طنجة وبقي منكبا على الدراسة وإعداد التقارير والمحاضرات ويتردد من حين لآخر على الإقامة العامة إلى أن توفي بتاريخ 13 مارس 1930” يضيف المؤرخ عبد القادر الخلادي.
كانت بحوث وتقارير ميشو بلير أهم موجه للإدارة الاستعمارية في تغلغلها وسط المجتمع المغربي، وبسط نفوذها عليه، استنادا إلى معرفة عميقة بدقائق الأمور الثاوية في عمق القبائل المغربية وبين ثنايا الإثنيات.. فلم يترك ميشو بيلير كبيرة ولا صغيرة إلا دوّنها؛ فقد كتب عن مدن وقبائل المغرب، وعن أشهر العائلات به، وعن الجزائريين المقيمين بالمغرب، وعن نظام الجبايات، وعن الأوقاف، والتنظيم العقاري، والنظام المالي، والتعليم الأهلي. كما ترجم كتب الفقه وحتى كتب علم التجويد. وكتب عن “التقاليد البربرية” في القبائل العربية وعن الأراضي الجماعية، وعن خلع السلطان مولاي عبد العزيز وتولية مولاي عبد الحفيظ…
إرسال تعليق
ضع تعليقك هنا