اقرا ايضا

المقاصد الجزئية
 ضوابطها. حجيتها. وظائفها. أثرها في الاستدلال الفقهي
(رسالة دكتوراه)
الطبعة الأولى. 1436هـ/2015م
دار المقاصد للطبعة والنشر والتوزيع بالقاهرة
البريد الإليكتروني: [email protected]



تقديم (1)

بقلم الإمام يوسف القرضاوي

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتَّبع هداه. (وبعد):
فإن الدكتور وصفي عاشور أبو زيد - حفظه الله ورعاه، وسدّد في طريق العلم والدعوة خُطاه - ابنٌ حبيبٌ، وأخٌ عزيز، وصديقٌ كريم، ونصيرٌ مبين، وعضوٌ مُؤسِّس في أسرة تلاميذ القَرَضاوي؛ فهو مني وأنا منه؛ أعتزُّ به، وأُقدّر علمه وفضله بين أبنائي وأحبابي، وهو إذا ذُكر العلماء فهو أحدهم، وإذا ذُكر الباحثون فهو في مقدمتهم، وإذا ذُكر المقاصديون فهو في طليعتهم، وإذا ذكر الدّعاة فهو منهم، وإذا ذكر الثائرون على الطواغيت فهو في أوائلهم.
دخل الدّعوة من باب الفقه، ودخل الفقه من طريق المقاصد، وفَقِهَ المقاصدَ من طريق فقْهه للقرآن الكريم، وللسنة النبويَّة المطهرة، ولفقه الصحابة والراشدين، وفقه تلاميذهم الأبرار من التابعين لهم بإحسان، ثم بفقه ما خلَّفه لنا الأئمة وأتباعهم من مصادرَ ثَريّةٍ، وكتب غنيّة، تركها الأولون، وزاد عليها الآخرون، فنهل منها جميعاً نَهْلَ الظمآنِ من الماء الـمَعين، وأعملَ فيها عقله الناقد، وحسَّه الواعي، فأعطته ما يُرضي فطرته، وما يُشبع فكرته، وما يَملأ وجدانه، فنال من منابعها الزاخرة، ومن منابتها الأولى والآخرة، أكثر مما ناله غيره على قدر جدّه ونيّته، ولله الفضل والمنّة.
وقال ما قاله إمامنا ابن القيم في إعلامه: "الشريعةُ عدل كلّها، ورحمة كله، وحكمة كلّها، ومصلحة كلّها، وأي مسألة خرجت فيها من العدل إلى الجور، ومن الرحمة إلى ضدها، ومن الحكمة إلى العبث، ومن المصلحة إلى المفسدة، فليست من الشريعة، وإن أُدخلت فيها بالتأويل".
لقد رأى الباحث الكريم أن الإسلام كله رسالة مقاصد، فله مقاصده في الشريعة، وله مقاصده في العقيدة، وله مقاصده في الأخلاق، وله مقاصده في كل ما يشرعه للناس، الذين يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، ويريد التخفيف ولا يريد التضييق، ويريد السعة ولا يريد الحرج، كما قال تعالى معلقا على أحكام الصيام: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [ البقرة: 185 ]، وقال تعالى بعد أحكام النكاح والتحريم: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}[ النساء:28وقال عز وجل:{هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [ الحج:78].
وقد كتب الدكتور وصفي عاشور كتابه في" المقاصد الجزئية في الشريعة الإسلامية"، ورجاني أن أكتب له مقدِّمة، وسلَّم إليَّ الكتاب، وبعد ما أصابني من وعكة صحية، وبعد انتصار الثورة المصرية، وبعد وفاة أخينا الحبيب، وشيخنا الكبير الشيخ عبد المعز عبد الستار، وشعرت بعدها بفتور الهمَّة، وخمود الجذوة، وضعف الشعلة، حتى هيأ الله - تباركت آلاؤه، وتعالت أسماؤه – لي هذه الفرصة لأمسك بالقلم، وأخط هذه السطور لتقديم باحثنا المحبَّب، وعالمنا المهذَّب.
وقد عُرِف د. وصفي بعلمه وبحثه وتخصُّصه في مقاصد الشريعة، وبعنايته بالجوانب الإصلاحية في مجتمعاتنا الإسلامية، وغيرته على الإسلام وأمته، وما تتعرض له من أعدائها وخصومها، في الداخل والخارج، ولهذا تعرفتْ عليه الجهاتُ الإسلامية المختلفة، وتعارف عليه الشباب الواعدون الصاعدون في دراسة الشريعة الإسلامية، والعقيدة الإسلامية، والأخلاق الإسلامية، ولهذا رأينا مركز الدراسات الذي قام من أجل الوسطيَّة في الكويت وكُلف بإدارته الدكتور الداعية عصام البشير، يختطفه من القاهرة، ويضمّه إلى صفّ العاملين معه، حين كان في أوج قوته، وبداية مشواره.
ورأيناه ينضم من أول يوم، ومن قبل البدء، إلى مدرسة تلاميذ القرضاوي، التي بدأت في الدوحة، وأبلغت دعوتها إلى المشارق والمغارب، ليتجاوب معها كثير من الشباب والكهول، الذين يعرفون بالفكر الوسطي والتجديدي المتميز والمعمَّق، والذي يعتمد على علم المقاصد، وفقه الأولويات، وفقه المآلات، وفقه الموازنات، وغيره من أنواع الفقه العملي التطبيقي الذي تحتاج إليه الأمّة في نهضتها العلمية والعملية والتشريعية.
وحين بدأت ثورات الربيع العربي بدءًا من تونس، وتثنية بمصر، ثم بليبيا واليمن، ثم بسورية، كان في مقدمة الذين حملوا اللواء، ولبّوا النداء، وقدموا الفداء، ونادوا الجماهير، لتقوم بدورها، وتؤدي واجبها في نصرة الحق، ومقاومة الباطل، والدفاع عن الشعب، ومطاردة السفاحين، والنهابين، الذين ظلموا الشعوب، وسفكوا دماءها بغير حق، وانتهكوا حرماتها بالباطل، وأكلوا أموالها حراماً، وسرقوها بل نهبوها، وهربوها إلى الخارج بالبلايين.
كان وصفي عاشور في طليعة الثائرين، مع إخوانه وشيوخه، الذين كفروا بالباطل والطاغوت، وآمنوا بالله وبالحق، وقد وفقني الله جلَّ شأنه لأقوم بدور في هذه المعركة الكبيرة، رآه بعض الناس بعين البصر والبصيرة، واضحًا كالشمس، راسخاً كالجبل، متينًا كالحديد، فكان وصفي من هؤلاء الذين رصدوا هذه المسيرة من جوانبها المتعدِّدة، وكتب فيها كتابه:لقرضاوي الإمام الثائر، دراسة تحليلية أصولية في معالم اجتهاده للثورة المصرية".
وكتب من قبل دراسته التي ترصد المقاصد في كتبي وفتاواي في كتاب سمَّاه: "رعاية المقاصد في منهج القرضاوي: رؤية استقرائية تحليلية". صدر عن دار البصائر في القاهرة، وقد عدّني -وفقه الله- من أبرز العلماء المعاصرين الذين راعوا المقاصد في سائر ما ارتادوه من مجالات تتعلق بقضايا الأمة المسلمة. وقد كتب غيره أيضاً حول صلتي بالمقاصد، منهم الأستاذ محمد شاويش في كتابه "المنهج المقاصدي عند الشيخ يوسف القرضاوي" طبع بدار الفكر بدمشق عام 2009، واقتصر فيه مؤلفه على المقاصد في كتاب "الحلال والحرام".
 وبين يدي الآن: رسالة ابني الحبيب وتلميذي النجيب الدكتور وصفي التي قاربت الخمسمائة صفحة في "المقاصد الجزئيَّة: ضوابطها. حجيتها. وظائفها..." وقد جعلها في مقدمة وستة فصول، وخاتمة ونتائج وتوصيات وفهارس.
ومن أجمل مواضيع الكتاب: حديثه عن الوظائف العامة للمقاصد الجزئية، وأهمها: العمل على  بيان خلود الشريعة وعمومها وصلاحياتها، والتَّسديد في الفقه والفتوى، وتوسيع أوعية الاجتهاد والتوسط في الاجتهاد والأحكام، والعمل على شرعية المصالح واجتهادها، والعمل على اعتبار الاجتهاد المآلي.
وما أجمل كلامه عند حديثه عن التوسط في الاجتهاد والأحكام: "إننا نعاني في حياتنا الفقهية والفكرية والثقافية من الجنوح إلى طرفي الإفراط والتفريط، وكل تفريط ينتج إفراطا، كما ينتج كل إفراط تفريطا، ويضيع المنهج الوسط والقول الوسط بين الجافي عن الدين والغالي فيه". كما أجاد أيضا في بحث الوظائف الخاصَّة للمقاصد الجزئية.
وما أجمل كلمته عند حديثه عن وظيفة تقييد إطلاق النص، وحمْل المطلق على المقيد رعايةً لمقصد من مقاصد الشريعة، وضرب المثال المعروف في إطلاق الرقبة في سورة المجادلة من كل وصف وتقييدها في سورة النساء بالإيمان، وأنَّ الإطلاق حُمِل على قيد الإيمان رعايةً لمقصد تحرير رقاب المسلمين.. قال – وفقه الله -: "وما أحوج أمتنا المؤمنة اليوم إلى من يحرر رقبتها لتنطلق من رقها الاقتصادي والسياسي والثقافي والفكري، فهي بحاجة لمن يحررها من هذه العبودية، وهي أوجب من تحرير رقاب الأفراد والعبيد، إنْ فرضنا لهم وجوداً واسعاً في هذا العصر".
  وقد ختم رسالته النافعة بملحق تطبيقي مستقل مهم: أورد فيه خمس تطبيقات: في العبادات، والمعاملات، والأحوال الشخصية، والحدود والعقوبات، والسياسة الشرعية، وقد دلت هذه التطبيقات على فهمه للمقاصد وتشربه لها.
 وقد ضرب مثالاً فيما يتَّصل بالعبادات بوقت رمي الجمرات، وذكر مقصد الحكم بأن المقصود من الرمي هو ذكر الله عز وجل، إضافةً إلى مقاصد أخرى تدعو إلى التوسع في وقت الرمي كما أفتيت بذلك وأفتى من قبلي وبعدي الكثيرون الذين أتى الأخ وصفي على ذكرهم.
وضرب مثالاً يتصل بالمعاملات في التَّسويق الشبكي، وانتهى إلى حكم هذا البيع بناء على مقصده، وأنَّ المقصود من التَّسويق الشبكي هو تسويق العملات وليس المنتج، مما يحكم عليه الفقيه المقاصدي بالتحريم.
وضرب مثالا ثالثاً يتَّصل بالأحوال الشخصيَّة في زواج المصلحة، القائم على قضاء المصالح فقط دون لقاء بين الزوجين، وذكر له عدَّة صور لاسيما في بلاد الغرب، ناقشناها في المجلس الأوروبي للإفتاء، وقد انتهى بعد عرض الأدلة لعدد من الفقهاء المعاصرين، عرض من بعدها لموقف الفقهاء من مسألة الألفاظ والقصود عند التعاقد، وعرض مقاصد الشريعة من الزواج وأثر ذلك في الحكم على هذه المسألة، وانتهى إلى عدم جواز زواج المصلحة الذي يفرِّغ العقد من معانيه ومقاصده، إضافة إلى أنه يُشوِّه صورة المسلمين في الغرب.
وضرب مثالاً رابعاً يتَّصل بالحدود، وهو حكم قتل المرتد، وقد أورد نصوص القرآن والسنة في المسألة، وتتبَّع أحاديث السنة في هذا الموضوع، وأظهر أن مجرَّد الردة ليس موجباً للقتل، وإنما الموجب لذلك اقتران الردة بالحرابة والخروج المسلَّح ومفارقة الجماعة، ونقل آراء الفقهاء المعاصرين، وانتهى إلى مقصد الحكم ودوره في الاستدلال، وهو منع الفتنة والمحاربة والخروج على جماعة المسلمين.
وأورد مثالاً خامساً يتَّصل بالسياسة الشرعية، وهو التظاهرات السلمية التي ظهرت في صورة ثورات شعبية أدَّت إلي خلع حكام وتغيير أنظمة، واستعرضَ آراء الفقهاء المعاصرين على هذه النازلة، فذكر أدلة من يحرِّمها، وأدلة من يجيزها، وناقش أدلة القول الأول الذي غاب عنه التصور الصحيح لواقع المسألة، فحكم على المظاهرات بالخروج على الحاكم، وأنها بدعة، أو فتنة.
ورجَّح بناءً على مقصد المظاهرات بأنها وسيلةٌ للاحتجاج على الأنظمة الطاغية المستبدة، وهذه الوسيلة إذا كانت من أجل الأخذ على يد الظالم، ورفع الظلم، وتحقيق كرامة الإنسان، واسترداد حريته فلا يماري عاقل في القول بالإباحة، بل الوجوب إذا توافرت فيها السلمية وتحقيق المصالح المترتبة على إقامتها أكثر من الخسائر والمفاسد.
ومن المسائل التي ناقشها في كتابه عند تطبيقاته لحجيَّة المقاصد الجزئية المنضبطة مسألة حكم قتال المسلم الأمريكي إخوانه المسلمين في أفغانستان، واستقرأ آراء الفقهاء في هذه القضية، وذكر أنَّني ممن أفتيت بجواز المشاركة عند الضرورة، وناقشني بأدب وإنصاف.
ورجَّح القول الذي يذهب إلى تحريم المشاركة مع المحافظة- قدر الاستطاعة- على قيم المواطنة، لأن مقصد الحكم هو حفظ النفوس البشرية، وهو مقصد كلي أيضا يتَّصل بهذا الحكم الجزئي.
والواقع أن هذه الفتوى لم تكن من صياغتي، ولم أنسبها لنفسي ولم أنشرها في كتبي وفتاواي المطبوعة، وليس من عادتي أن أكتب فتوى بالاشتراك، وإنما كانت هذه الفتوى بمثابة بيان لمعالجة موقف طارئ، وقد صُوِّر لي بأن عدم اشتراك الجنود المسلمين الأمريكان في تلك الحرب سيلحق ضرراً بجميع المسلمين هناك، وقد رجعت عن هذه الفتوى التي تنسب إليَّ وعددتها من الفتاوى الشاذة في كتابي الأخير "الفتاوى الشاذة معاييرها وتطبيقاته وأسبابها وكيف نعالجها ونتوقاها" ص124-126، وقلت هناك: إن موافقتي على هذه الفتوى مردُّها إلى عدم معرفتي معرفةً كاملة وواضحة بالواقع الأمريكي، وأنَّ من حقِّ الجندي في الجيش أن يعتذر عن عدم مشاركته في الحرب ولا حرج عليه......
وهناك ملاحظات عابرة لاحظتها أثناء تصفحي لرسالته القيمة، نبهت إليها أخي الكريم الدكتور وصفي، وأرسلت إليه ببعضها، في صفحتين؛ ليتداركها عند طباعة الكتاب.
وهذه الملاحظات العابرة لا تقلل من الجهد الكبير الذي بذله الابن الوفي وصفي، الذي استوفى في دراسته المقاصدية ما استطاع، وناقش وأصَّل، وبحث وحلَّل، ممَّا يدل على تضلعه بعلم المقاصد واطلاعه الواسع على ما كتب فيه في القديم والحديث، مع حُسن العرض وجمال الأسلوب .
والأخ وصفي ليس ككثير ممن يحرص على درجة الدكتوراه، كما هو شأن كثير من الحريصين على هذا اللقب، يتدرج آليًّا في مراحل الدراسة حتى يصل إليها، فإذا وصل إليها انتهى عندها واكتفى بها، وإنما نالها بعدما حمل من العلم ما يغنيه عنها؛ فدرس وقرأ، وبحث وكتب، وصحب العلماء والفقهاء والدعاة، فكانت الدكتوراه لأخينا وصفي قطعةَ حلوى على مائدته، إن وجدت نفعت ولذَّت، وإن فُقدت ما ضرت وجوَّعت، ورُبَّ دكتوراه عند آخرين هي خبز المائدة وإدامها ليس عليها غيرها.
أسأل الله عز وجل أن ينفع بابننا وأخينا الشاب النجيب، وفقيهنا الأريب، ليقدِّم المزيد من العطاء العلمي، وأن يُعنى بفقهاء النهضة العلمية الحديثة، ويبرز دورهم في الإصلاح والتجديد وإعمال المقاصد في بحوثهم وفتاواهم؛ ليكون مع هؤلاء الروَّاد، ويحمل مع إخوانه من تلاميذنا النجباء الراية العلمية، ويحقِّقوا لهذه الأمة الريادة، ويعيدوا إليها المكانة، ويضطلعوا بمهمة الفقهاء المقاصديين الذين يعيدون دور الفقه إلى حياة الناس، ويحلون به مشكلاتهم، ويحققون به سعادتهم في دنياهم وأخراهم، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، وصلي الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.
القفير إلى عفو ربه
يوسف القرضاوي
الدوحة في الأحد 27 رجب 1433
17 / 6/ 2012               
  


تقديم (2)

بقلم العلامة ا.د. أحمد الريسوني

حينما تعرفت - قبل بضع سنين - على الأخ الدكتور وصفي عاشور أبو زيد ظهر لي من أول لحظة أنني أمام شُعلة متميزة متوقدة من النشاط والحيوية والأخذ والعطاء.

ورغم أن الدكتور وصفي كان - ولا يزال - يشتغل ويتحرك في اتجاهات عديدة، فإن ذلك لم يُضْعف ولم يقلل من كثافة اعتنائه بالبحث عن مقاصد الشريعة وما يدور في فلكها.

وبحكم الاهتمام والتخصص المشترك بيننا، كان يأتيني كلما سنحت له فرصة هنا أو هناك، أو يتصل بي بأي وسيلة ممكنة، ليسألني أو يستوضحني، أو يناقش معي آخر مستجدات المقاصد، فأجد عنده من الجديد المفيد أكثر مما يجد هو عندي؛ ولفرط حرصه وتتبعه ومناقشته لكل ما يتعلق بالمقاصد، كنت أقول له ولبعض أصدقائه عنه: "هذا مجنون المقاصد"، ومن الجنون فنون كما يقولون. نعم.. لقد جُنَّ بالمقاصد إلى حد التفنُّن...
فهاهو وصفي عاشور يخرج لنا من جنونه وفنونه هذا السفر النفيس: (المقاصد الجزئية).

وبما أن الكتاب الآن بين يدي طُلابه وقرائه، فلن أطيل في "وصفه"، وتفصيل القول في مضامينه، ولكني أقول كلماتٍ موجزةً عن بعض مميزاته، وأذكر منها:

1.        الاستقصاء والإحاطة.
فالمؤلف إذا طرق مبحثًا لا يكاد يَفُوتُه من أمره وما قيل عنه من شيء، سواء عند الأقدمين وأقدمِ ما تركوه، أو عند المعاصرين وآخرِ ما كتبوه.. وإنَّ قراءة سريعة للقائمة الشيقة لمصادر البحث ومراجعه لتُنبئك عن بعض هذه الميزة، ويستطيع من يريد تكوين مكتبة أو "ببليوغرافيا" في مقاصد الشريعة أن يجد بغيته وغنيته في هذه القائمة الوافية.

2.        الاجتهاد في التأصيل والتنزيل.
 فالدكتور وصفي يستفيد من خاصيته السابقة أيَّما استفادة، فيضع بين يديه وبين أيدي قرائه ثروةً طائلة من المعلومات والاستشهادات المنتقاة المنسقة، ولكنه لا يبرح حتى يُعملَ فيها فكرَه وجرأته الاجتهادية، سواء في تركيبها وتشكيلها النظري، أو  في نقلها إلى حيّز التنزيل والتطبيق، وقد بلغ ذلك أوجَهُ في الفصول الأخيرة وملحقاتها...

3.        الواقعية والمعاصرة.
 وأعني بذلك أن لعصرنا وواقعنا حضورًا قويًّا، فاعلا ومنفعلا، في قضايا الأطروحة وتنظيراتها وتطبيقاتها، وهذه ميزة ليست بالسهولة التي تُظَنُّ؛ ولذلك نجد عامة الباحثين في القضايا الشرعية يلوذون بالتراث ويغرقون في التاريخ وقضايا السلف والخلف، حتى إذا اقتربوا من زمانهم ومكانهم أدرك شهرزادَ الصباحُ... ولقد قلت مرارا لبعض الباحثين والمؤلفين: يا أخي، تحكي لنا عن موضوعك من عهد سيدنا آدم، مرورا بالعصر الجاهلي وصدر الإسلام، والمذاهب الأربعة ووفاقها وخلافها وتطبيقاتها ... ثم تُغَيِّب عصرَك وما يعجُّ به من قضايا وإشكالات واحتياجات، وحتى ما فيه من فتاوى واجتهادات!
لكن الدكتور وصفي كتب ما كتب عن عصره ولعصره، مما يجعلنا نحس في كل مبحث من مباحثه أن الرجل يَنظر ويُنظّر من قلب الميدان، وأن مقاصده الشرعية تتحرك وتَفْعلُ فِعْلَها في معمعة الميدان.
وأريد في ختام هذه الكلمة أن أقرر شيئا - ربما كان سابقًا لأوانه - وهو أن الدكتور وصفي عاشور أبو زيد - بكتابه هذا وكتاباته المقاصدية الأخرى - وقبله الدكتور جاسر عودة - بكتابه (فقه المقاصد...) وكتاباته ومحاضراته الأخرى في المقاصد - يشكلان فاتحةَ طورٍ جديد، وطليعةَ جيلٍ جديد من المفكرين والبنَّائين المقاصديين؛ إنه جيل التنزيل والتفعيل لمقاصد الشريعة وأصولها...والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
كتبه
أحمد الريسوني، بمدينة الرباط.
 صبيحة الجمعة 17ذي القعدة 1432هـ – 14 أكتوبر2011م.


تقديم (3)

بقلم العلامة ا.د. محمد كمال الدين إمام


اتجهت الدراسات المقاصدية المعاصرة – خاصة الأطروحات الجامعية – إلى البحث عن المقاصد عند أشخاص، أو في كتاب، أو من خلال مذهب، أو في موضوع، ويبدو البحثُ في هذه المجالات الأربعة ضروريا، فهي في حاجة إلى ارتياد.
ولا شك أن خطواتٍ جادةً قطعناها في هذه السبيل، كان حصادُها تراكمًا معرفيًّا حول المقاصد في اتجاهات شتى وعوالم متباينة، إلا أنها خطواتٌ مقيدة؛ لأن البحث في بنية المقاصد ظل هو البعدَ الغائب عن غالبية الدراسات المعاصرة، فلم تُسفر عن منهجية معاصرة في الدرس المقاصدي، كما لم تُثمر تفعيلا يتحرك على خارطة العلوم الإسلامية، ومن ثم يدخل في حركة الإنسان المسلم تشريعيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، حتى بدا رجال المقاصد المعاصرين - إلا قلة منهم من جيل الرواد ومن شباب الباحثين – وكأنهم في برج عاجي يتأملون في اللوحة المقاصدية بإعجاب دون استقبال لها بترحاب في الحياة العقلية والعملية.
ومن هذه القلة من المعاصرين من شباب الباحثين يأتي الدكتور وصفي عاشور أبو زيد الذي اكتسبتْ أطروحتُه للدكتوراه عن "المقاصد الجزئية" أهمية خاصة في المكتبة المقاصدية بما تتناوله من أفكار، وما تثيره من قضايا، وما تطرحه من رؤى.
وهي من عنوانها المختار تنتمي إلى الاتجاه الذي يسعى إلى تفعيل المقاصد عمليًّا بعيدًا عن الاستغراق في التفاصيل، الذي لا يتقدم بالدرس المقاصدي إلى الأمام متجاوزًا – كما قال – التكدس في مجال التنظير في محاولة جادة لتجسير الفجوة بين النظرية والتطبيق.
واللافت للنظر أن المقاصد الجزئية عند وصفي عاشور تجد مكانها الطبيعي في علم الأصول، وتستأنف وظيفتها في الاستدلال والحجية، وتستوعب في حركتها العبادات والمعاملات.
وقد ناقشت الباحث في رسالته الممتازة، واعترضت عليه في أمرين:
الأول: اعتماده على أكثر من منهج في موضوع أراه أحوج ما يكون إلى اختيار منهج وحيد؛ لأن الجمع بين مناهج الاستقراء والاستنباط والتحليل وما أسماه بمنهج التكميل يفضي – كما يقال – إلى تجزئة المجزأ، وتقسيم المقسم، مما يجعل الفكرة الرئيسة تتوارى وراء تنوع المناهج، بل وتناقضها في بعض الأحيان.
الثاني: إغفاله – وهو في مجال التطبيق المقاصدي – إيضاح العلاقة العضوية بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي، فالحكم التكليفي - على أهميته – لا يمكن تنزيله واقعيًّا إلا بعد وجود السبب وتوافر الشروط وانتفاء الموانع.
لقد بذل الباحث جهدًا كبيرًا في ضبط المقاصد الجزئية وتحريرها، وأظنها من أكثر المباحث المقاصدية التباسًا وغموضًا، فهي كالمقاصد الكلية تحددها المصلحة التي تُجْلب والمفسدة التي تُدفع، وهي كالمقاصد الكلية كذلك لها دور في عملية الاجتهاد.
وقد اختار الباحث الطريق الصعب؛ ليصل إلى تنظير دور المقاصد الجزئية في الاستدلال الفقهي، ورسم خرائطه الأصولية من خلال تطبيقاته العملية، وكان موفقًا في ذلك غاية التوفيق، وكان أمينًا مع نفسه – باعتباره باحثًا متميزًا – عندما تحدث في مباحث من رسالته عن خطورة وصعوبة تحديد المقاصد الجزئية.
لقد آثر الباحث تطبيق نظريته في المقاصد الجزئية على أنظمة تشريعية متكاملة خاصة في المعاملات مثل نظام الزواج، والنظام الجنائي الإسلامي في مبحث الردة، وحسبه أنه استكمل الأدوات، وحاول توفير الأسباب في موضوع هو مزلة أقدام وأفهام، وله أجر المجتهد إن أخطأ وإن أصاب.
محمد كمال الدين إمام
القاهرة في 30 نوفمبر 2012م




مقـدمة
الحمد لله رب العالمين، حمدًا يوافي نعمه، ويكافئ مزيده، وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، "الَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ". الأعراف: 157. وبعد،،
فلا يخفى على الدارسين والمشتغلين بالدراسات الشرعية ما تمتعت به الشريعة الإسلامية من عواملَ ومقوماتٍ جعلت فيها من المرونة والسَّعة ما تنهض به لاستيعاب التطورات والمستجدات، وما يُمكِّنها من الصلاحية لكل مكان وزمان وجيل وحال، وما يمنحها خَصِيصة الخلود والشمول على مر العصور.
ولعل من أبرز ما جعل شريعتنا الغراء بهذه الطبيعة احتواءَ أحكامها على معانٍ وأوصاف معقولة، ونوطَ تشريعاتها بمقاصدَ وعللٍ يمكن تعديتُها إلى غيرها من الأحكام والمستجدات بما يضمن دخولَ كلِّ جديد تحت مظلتها، وبسطَ سلطانها على مجالات الحياة بتطورها وتجددها.
ومن المشاهد في واقعنا البحثي ـ منذ ثلاثة عقود على الأقل ـ وجودُ صحوة في دراسات المقاصد توازي الصحوةَ الإسلامية أو تقاربُها؛ حيث أضحى للمقاصد مناهجُ دراسيةٌ، ورسائلُ علميةٌ أكاديمية، ودراساتٌ وأبحاث، وندْواتٌ ومؤتمرات([1])، وأصبح للمقاصد أعلامٌ ومتخصصون كما لكلِّ فنٍّ وعلم، وهذا تطور طبيعي لعل من أسبابه ما نحياه من نهضة علمية وتطور على الأنحاء جميعًا.
وإن الصحوة الإسلامية الصاعدة الهادرة في العالم العربي والإسلامي، والشباب الواعد المتوقد فكرًا وتحمسًا وهمة، والتغيرات الهائلة التي تَحدُث في عالمنا العربي والإسلامي لهي في حاجة ماسة إلى تفعيل الفكر المقاصدي في هذه المرحلة الدقيقة من حياة الأمة.
ذلك؛ أن الفكر المقاصدي ـ تفعيلا وتنزيلا ـ كان دائما يُستلهم في فترات النهوض، ويُستدعى في أزمنة التجديد والمقاومة والبناء، ويُعتمد في أوقات الحفاظ على الهوية ورد الشبهات، وما أحوج أمتنا لهذا كله في هذا الزمان.
والحق أن الحادثات والمستجدات تحتاج إلى إعمال لآليات الاجتهاد المستقرة عندنا، التي أرسى دعائمها وشيَّد عمارتها مَنْ هيأهم الله تعالى لهذه المهمة، كما تحتاج إلى توسيع لهذه الأوعية لتكون الشريعة أكثر قدرة ـ بفعل المجتهدين فيها ـ على الاستيعاب والاحتضان، فمن مقاصد وضع الشريعة دخولُ المستجدات تحت مظلتها، وهذا ما يُمْكِنُ أن تساهم فيه المقاصدُ الجزئية بشكل أو بآخر.
أسباب اختيار الموضوع:
من هنا أردت محاولة المساهمة في ذلك بما يمكن أن يكون له آثاره وأبعاده وانعكاساته على الاجتهاد الشرعي المعاصر، فكان موضوع هذه الدراسة بعنوان: "المقاصد الجزئية: ضوابطها. حجيتها. وظائفها. أثرها في الاستدلال الفقهي"، وقد دفعني لاختياره عدد من الأسباب، منها:
أولاً: محاولة المشاركة في بيان عوامل الصلاحية الحضارية للشريعة الإسلامية، وخلودها، وشمولها، على مر العصور، وقدرتها على الاستيعاب والتجديد والتطوير.
ثانيًا: لم أجد ـ فيما أعلم ـ مَنْ تناول المقاصد الجزئية من الناحية الأصولية والنظرية، في حين توجد دراسات تبين المقاصد الخاصة في كثير من أبواب الفقه الإسلامي ابتداء من العلامة ابن عاشور حتى الآن، وكذلك توجد دراسات تتناول المقاصد الأصلية والتبعية للأبواب كلها أو لبعض الأبواب، كما توجد دراسات لبيان المقاصد الجزئية في بعض الأبواب، وهذا من الناحية الفرعية الجزئية التطبيقية فقط([2]) بعيدًا عن الناحية الأصولية والتنظيرية المشفوعة بتطبيقات تبرهن على صحتها وأصالتها، اللهم إلا تعريفها فقط.
ثالثًا: التكدس الذي حصل للدرس المقاصدي في عصرنا أدى به إلى الإغراق في التنظير بما أبعده ـ إلى حد ما ـ عن اشتباكه مع الواقع تطبيقًا وتنزيلاً؛ بحيث أصبحت الفجوة بين التنظير والتفعيل أوسع مما كانت، وهذا ما يدعو إلى محاولة ترشيد الدرس المقاصدي وتفعيله وتشغيله في التنزيل الاجتهادي والعمل الفقهي في واقعنا المعاصر؛ فضلا عن المجالات الأخرى؛ إذ إن إعمال المقاصد يعتبر لب النسق الفكري الإسلامي، وعمدة الاجتهاد التأصيلي والتنزيلي.
رابعًا: محاولة تقوية الصلة بين الأحكام الفقهية المجردة ومقاصدها؛ بحيث يطرح الفقه ممزوجًا بأهدافه وغاياته ومقاصده المتنوعة، ومرتبطًا بقيمه الإيمانية والأخلاقية والسلوكية، وبهذا لا نجعل الأحكام الفقهية مجرد قوانين جامدة وجافة، بل وجبة شاملة للعقل والروح والجسد والوجدان جميعًا، وهو منهج القرآن الكريم في تشريع الأحكام.
الدراسات السابقة:
لم تُدرَس المقاصد الجزئية؛ فضلا عن نظريتها ـ كما سبقت الإشارة ـ بشكل شامل، وبخاصة من الناحية التأصيلية والنظرية، وقد تعرض بحثان لبعض نواحيها، وهما:
الأول: بحث الدكتور عبد الرحمن الكيلاني بعنوان: "أثر المقاصد الجزئية في فهم نصوص السنة النبوية". وهو بحث غير منشور، قدم إلى مؤتمر السنة النبوية الذي عقد في جامعة الزرقاء الأهلية بالأردن عام 2002م، بين فيه أن للمقاصد الجزئية دورًا في فهم نصوص السنة، فمن خلالها يتم تحديد الزمان، وأنواع الأفراد الذين يشملهم الحكم، وغير ذلك من فوائد، وسيأتي الاستشهاد به في أثناء البحث.
الثاني: دراسة الدكتور جاسر عودة بعنوان: "فقه المقاصد إناطة الأحكام بمقاصدها" ـ وهي رسالة ماجستير نشرها المعهد العالمي للفكر الإسلامي ـ تناولت أجزاء من الناحية الأصولية تعلقت بإثبات دوران الأحكام مع مقاصدها ونوطها بها، وبيان دورها في الترجيح عند تعدد الآراء، ودورها في التوفيق بين النصوص المتعارضة ظاهريًّا مما يؤدي أحيانًا إلى تضييق مساحة النسخ في النصوص الشرعية، وأورد تطبيقاتٍ معاصرةً على فقه الأقليات المسلمة.

صعوبات البحث:
واجهتني في إنجاز هذا البحث عددٌ من الصعوبات لعل أبرزها ندرة الدراسات التي تحدثت عن المقاصد الجزئية، وبخاصة من الناحية الأصولية والنظرية مما تطلب طول تأمل وعمق نظر في الفروع الفقهية، واستلهام ما كُتب في أصول الفقه وبخاصة في القياس، وعلى وجه أخص ما كتب في العلة وشروطها وضوابطها، للإفادة من ذلك والاسترشاد به في الحديث عن المقاصد الجزئية، لا سيما في مسالك الكشف عنها وضوابط اعتبارها؛ باعتبار أن التعليل أبو المقاصد وأساسها ومهادها.
وكذلك قلة الأحكام الفقهية العملية التي يتضح فيها مقصدها، ولا يخفى أن هذا يؤدي إلى معاناة في التأصيل والتأطير لهذا الموضوع، غير أن البحث والتنقيب في نصوص الشرع، وكلام الفقهاء والتأمل في خلافهم يؤدي إلى تكثير هذه النوعية من الأحكام عبر مسالكها المشروعة، وهذا ـ بدوره ـ يكون له انعكاسه الإيجابي على التأصيل والتنزيل والتفعيل.
منهج البحث:
تطلبت هذه الدراسة أن تعتمد أكثر من منهج في البحث؛ فقد اعتمدت المنهج الاستقرائي في النظر إلى الفروع الفقهية لبناء التأصيل عليه بناء صحيحًا، وكذلك المنهج الاستنباطي، وهو الغالب على هذه الدراسة، كما اعتمدت المنهج التحليلي الذي حاولت ـ من خلاله ـ تحليل أقوال الأصوليين والفقهاء، وكذلك نصوص القرآن الكريم، ونصوص السنة الصحيحة، ثم المنهج التكميلي الذي استفاد من آراء الأصوليين القدماء والمعاصرين وبنى عليها.
وحينما وضعت خطة البحث في بدايته لم تكن كما انتهى إليه البحث الآن؛ فقد بدلت وغيرت الفصول والمباحث، وحلَّ بعضها مكان بعض، وهذا أمر معهود في مجال الدرس العلمي؛ أملاً في الوصول إلى أفضل ما يمكن في نظر الباحث، ولله وحده الكمال والعصمة.
وقد أفدت من جهود أصوليينا ـ رضي الله عنهم، وجزاهم خيرًا ـ كما أفدت من إضافات الدارسين المعاصرين، وبخاصة في مجال المقاصد، ولم يمنعني إجلالي لهم وإعجابي بهم أن يكون لي رأي أو تعقيب أو توضيح في فكرة من الأفكار أو مسألة من المسائل؛ فكما خالفوا هم مَن سبقهم، فلا عجب أن يخالفهم من يأتي بعدهم، مع الاعتراف لهم بالسبق والفضل والعلم والمكانة.
وترجمت للأعلام الواردة في الرسالة، مستثنيًا أئمة المذاهب وأعيانها مع الأحياء من المعاصرين، وترجمت لأغلب المتوفَّيْنَ من المعاصرين، رحمهم الله جميعًا.
كما عَزَوْتُ الآياتِ القرآنيةَ، وخرجت الأحاديثَ النبوية والآثار؛ فما ورد من الأحاديث في صحيحي البخاري ومسلم ذكرت كتابه وبابه، وما ورد في سواهما ذكرت تخريجه، وبينت الحكم عليه من مدونات التخريج والحكم على الحديث.
وأعددت فهارس تفصيلية للدراسة: آياتٍ قرآنية، وأحاديثَ نبوية، ومصادرَ ومراجع، وفهرسًا تفصيليًّا بالموضوعات.
مصادر الموضوع:
أما مصادر هذه الدراسة فقد كانت كثيرة ومتنوعة شملت مصادر قديمة وحديثة ومعاصرة، حتى الأبحاث المحكمة المنشورة في المجلات، وأعمال الندوات والمؤتمرات ـ من الشرق والغرب ـ حاولت الإفادة منها والاعتماد عليها، ولا يخفى أنه لا غنى لدراسة في المقاصد عن الرجوع إلى الجهود المعاصرة، وعطاءات الدارسين والباحثين المعاصرين.
وكان لكتب أصول الفقه وقواعده وكتب المقاصد ـ قديمًا وحديثًا ـ النصيبُ الأكبر من مراجع البحث، كما كان أكثر الأسماء ورودًا واستشهادًا بأقوالهم في البحث على الإطلاق بالترتيب: الإمام محمد الطاهر بن عاشور، والإمام الشاطبي، والإمام ابن القيم، وشيخنا الدكتور أحمد الريسوني، وشيخنا الدكتور يوسف القرضاوي([3])؛ إقرارًا لما يقولون، أو تفصيلاً فيه، أو تعقيبًا عليه، أو مخالفة له، مع بيان وجه ذلك كله في مجموع البحث.
خطة البحث:
اقتضت طبيعة هذا الموضوع أن يكون في مقدمة، وستة فصول وملحق وخاتمة، فأما المقدمة فقد احتوت على الحديث عن: أهمية الموضوع، وأسباب اختياره، ودراسات السابقين فيه، وصعوباته، ومنهجه، ومصادره، وخطته.
وأما الفصل الأول فقد جاء بعنوان: ماهية المقاصد الجزئية وطبيعتها، احتوى على مبحثين: الأول: تعريف المقاصد الجزئية والتعريف المختار وشرحه، والألفاظ ذات الصلة، مثل: المصلحة والحكمة والعلة، وجاء في عدد من المطالب والفروع، والمبحث الثاني عن طبيعة المقاصد الجزئية، وجاء في ستة مطالب: المطلب الأول: مقصد الحكم الجزئي بين الانفراد والتعدد، والمطلب الثاني: مقصد الحكم الجزئي بين العاليَّة والكلية والخاصيَّة والجزئية، والمطلب الثالث: المقصد الجزئي بين القطعية والظنية، والمطلب الرابع: المقصد الجزئي بين الأصلية والتبعية، والمطلب الخامس: طبيعة العلاقة بين مقصد الحكم وعلته. والمطلب السادس: تنبيه مهم:
وأما الفصل الثاني فكان عنوانه: التأصيل الشرعي للعمل بالمقاصد الجزئية، وكان في أربعة مباحث: المبحث الأول: التقصيد الجزئي في القرآن الكريم، والمبحث الثاني: التقصيد الجزئي في السنة النبوية، والمبحث الثالث: التقصيد الجزئي عند الصحابة، والمبحث الرابع: وجوب العمل بالمقاصد الجزئية وليس مجرد المشروعية.
وأما الفصل الثالث فتحدث عن: نطاق المقاصد الجزئية، وجاء في ثلاثة مباحث أيضًا، المبحث الأول: أقوال الأصوليين في تقصيد الأحكام الجزئية جملة وتفصيلاً، والمبحث الثاني: التقصيد الجزئي في العبادات جملة وتفصيلاً، والمبحث الثالث: التقصيد الجزئي في غير العبادات جملة وتفصيلاً كذلك.
وأما الفصل الرابع فجاء بعنوان: مسالك الكشف عن المقاصد الجزئية، وكان في ثلاثة مباحث: المبحث الأول: المقصد الجزئي: خطورة إثباته وصعوبة تحديده. والمبحث الثاني: الجهود السابقة في طرق الكشف، ونصيب طرق الكشف عن المقاصد الجزئية فيها. المبحث الثالث: طرق الكشف عن المقصد الجزئي، المبحث الرابع: مقارنة بين مسالك الكشف عن العلة والمقصد الجزئي. وكل مبحث احتوى على عدد من المطالب والفروع.
وأما الفصل الخامس فكان بعنوان: ضوابط اعتبار المقاصد الجزئية ومدى حجيتها، وجاء في مبحثين: المبحث الأول: ضوابط اعتبار المقاصد الجزئية، والمبحث الثاني: مدى حجية المقاصد الجزئية، وكل من المبحثين تحته مطالب.
وأما الفصل السادس فجاء تحت عنوان: وظائف المقاصد الجزئية، وكان في مبحثين: المبحث الأول: الوظائف العامة للمقاصد الجزئية، والمبحث الثاني: الوظائف الخاصة للمقاصد الجزئية.
وأما الملحق فقد احتوى على أمثلة تطبيقية مستقلة تؤكد أهمية المقاصد الجزئية مع أحكامها؛ وتبرز وظائفها؛ استدلالا وضبطًا وتوجيهًا وترجيحًا وغير ذلك، ورغم أنني حاولت إغناء الرسالة بالتطبيقات، فقد استحسنتُ أن أفرد ملحقًا تطبيقيًّا مستقلاًّ، وتوزعت هذه الأمثلةَ أبوابُ الفقه الإسلامي الخمسة: عبادات، معاملات، أحوال شخصية، حدود وعقوبات، سياسة شرعية.
ثم كانت الخاتمة التي تضمنت أهم النتائج، وأبرز التوصيات.
وأخيرًا فهارس الدراسة.
وبهذا تكون فصول الدراسة انقسمت قسميْن كبيرَيْن رئيسَيْن: الأول: يضم فصولاً تعتمد على الرصد والوصف والتحليل، وهي: الماهية، والطبيعة، والنطاق، والثاني: يشمل فصولاً تعتمد على الاستنباط والتقعيد والتنظير، وهي: التأصيل الشرعي، ومسالك الكشف، وضوابط الاعتبار ومدى الحجية، ووظائف المقاصد الجزئية.
وقيامًا بواجب الوفاء والامتنان أشكر لأستاذي الدكتور أحمد يوسف سليمان، أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، الذي أشرف على هذا البحث خمس سنوات، كما كان مشرفي في "الماجستير"، فكان نعم المعلم والوالد والمربي، ولأستاذي الدكتور محمد قاسم المنسي، أستاذ الشريعة الإسلامية المساعد بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، الذي تسلم الإشراف على هذا البحث بعد سفر د. أحمد يوسف، فكان عميق النظرات والملاحظات والمنهجية، وكان لهما ـ معًا ـ فضلٌ يُذكر فيشكر، فجزاهما الله خيرًا، وشكر لهما.
وللأستاذ الدكتور إبراهيم محمد عبد الرحيم، والأستاذ الدكتور محمد كمال الدين إمام، اللذين ناقشا هذا البحث؛ وأفاداه بملاحظات وتوجيهات مهمة، كان لها أثر طيب على البحث وصاحبه.
*                *      *
وإنني لا أدعي ـ فيما كتبت ـ استيفاءه من جميع جوانبه بحيث لا يندُّ عنه شيء، فالكمال لله وحده، ولكن حسبي أنني اجتهدت بما أحسستُ معه بالعجز عن مزيد طلب، وبخاصة في رؤيته وجوانبه ومنهجيته، ثم بإعادة النظر فيه مرات عديدة، فإن وُفقت فذلك فضل الله ومحض عونه، وإن كانت الأخرى فأرجو ألا أُحْرَمَ ثوابَ الأجرِ الواحد.
ولا أملك إلا أن أختم دراستي ـ معتذرًا عما وقع من تقصير في هذا البحث ـ بآخر ما ذكره ابن خلدون في مقدمته (3/ 1213. طبعة علي عبد الواحد وافي)؛ حيث قال ـ وما أروع قوله! ـ: "وقد استوفينا من مسائله ـ يعني طبيعة العمران وما يعرض فيه ـ ما حسبناه كفاية، ولعل من يأتي بعدنا ممن يؤيده الله بفكر صحيح وعلم مبين يغوص من مسائله على أكثر مما كتبنا، فليس على مستنبط الفن إحصاءُ مسائله، وإنما عليه تعيينُ موضع العلم وتنويعُ فصوله وما يُتكلم فيه، والمتأخرون يُلحقون المسائل من بعده شيئًا فشيئًا إلى أن يكمل، والله يعلم وأنتم لا تعلمون". ا.هـ..
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

الفقير إلى عفو الله
وصفي عاشور أبو زيد
الكويت في 26 شوال 1432هـ
الموافق 24 سبتمبر (أيلول) 2011م.




([1]) من ذلك: ندوة "مقاصد الشريعة وعلاقتها بالعلوم الشرعية" والتي عقدت في جامعة القاضي عياض – مدينة بني ملاّل – المغرب في الفترة الواقعة 19-23/2/2001م، والملتقى الوطني الأول في جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة في الجزائر حول مقاصد الشريعة الإسلامية ودورها في تنوير العقل المسلم لمواجهة التحديات المعاصرة، محرم 1426هـ/ مارس 2005م، والندوة العالمية في الجامعة الإسلامية بماليزيا بعنوان: مقاصد الشريعة وسبل تحقيقها في المجتمعات المعاصرة رجب 1427هـ/ أغسطس 2006م، الندوة العالمية حول "فقه الأقليات في ضوء مقاصد الشريعة  تميز واندماج" التي عقدتها رابطة العالم الإسلامي بالتعاون مع المعهد العالمي للفكر والحضارة الإسلامية وقسم الفقه وأصول الفقه بالجامعة الإسلامية العالمية في كوالالمبور بماليزيا في الفترة من 21ـ23/11/1430هـ الموافق 9-11/11/2009م، وآخرها المؤتمر العام الثاني والعشرون للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر بعنوان: مقاصد الشريعة الإسلامية وقضايا العصر 1431هـ / 2010م.
([2]) من ذلك: المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام. د. راوية أحمد عبد الكريم الظهار. جائزة نايف بن عبد العزيز آل سعود العالمية للسيرة النبوية والدراسات الإسلامية المعاصرة. الطبعة الأولى. 1426هـ/2005م، ومقاصد الشريعة الإسلامية في الشهادات. بركات أحمد بني ملحم. دار النفائس. عمان. الطبعة الأولى. 2005م، والمقاصد الشرعية فى الفقه الاسلامي: دراسة مقارنة مع القانون الوضعى فى باب النكاح. عبد العظيم محمد الأجطل. أطروحة (دكتوراه). جامعة القاهرة. كلية دارالعلوم. 2006م، ومقاصد الشريعة في زكاة المعادن وتطبيقاتها في العصر الحاضر. زاهار الدين محمد سعيد. أطروحة (ماجستير). جامعة القاهرة. كلية دارالعلوم. 2007م، وأثر المقاصد الفرعية في الجرائم والعقوبات في الشريعة الإسلامية. محمود محمد الدهشان. رسالة ماجستير بكلية دار العلوم. جامعة القاهرة. 2008م، ومقاصد العقوبات بين الشريعة والقانون : دراسة مقارنة. أحمد إبراهيم يحيى يابس . أطروحة (دكتوراه) - جامعة القاهرة - كلية دار العلوم. 2010م، ومقاصد الشريعة المتعلقة بالمال. لشيخنا الدكتور يوسف القرضاوي. دار الشروق. القاهرة. الطبعة الأولى. 2010م، وغيرها.
([3]) ورد ذكر محمد الطاهر بن عاشور 74 مرة، والشاطبي 73 مرة، ، وابن القيم 28 مرة، ود. الريسوني 27 مرة، ود. القرضاوي 15 مرة، وذلك في متن البحث فقط دون حواشيه، وقد كان أكثرهم ورودًا ابن عاشور؛ لحديثه عن المقاصد الخاصة وإبداعه فيها، وهي المرتبة التي تلي المقاصد الجزئية مباشرة؛ موضوع حديثنا، إضافة لتطبيقاته الغنية والمعبرة.
Previous Post Next Post