اقرا ايضا
يذهب المفكر الكبير ألكسيس كارليل في كتابه الإنسان ذلك المجهول إلى أن “الحضارة العصرية تجد نفسها في موقف صعب لأنها لا تلائمنا، فقد أنشئت من غير معرفة حقيقية بطبيعتنا، إذ أنها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية و شهوات الناس و أوهامهم و نظرياتهم و رغباتهم، و بالرغم أنها أنشئت بجهودنا فإنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا و شكلنا”.
في هذا السياق يتسائل الدكتور طه عبد الرحمن في كتابه سؤال الأخلال بتعجب كبير”ما أشد غفلة الإنسان الحديث ، حتى كأنه على ظاهر تقدمه العلمي و التقني الهائل إنسان جهول ؟ ألا ترى كيف أنه يقدم قليل النفع على كثيره، إن لم يقدم صريح الضرر على صحيح النفع كما يفعل الجهلة من الخلق؟ و هل في الضرر أسوأ من أن يدعو إلى حقوق و حظوظ تخرجه من رتبة الإنسانية و تنزل به إلى درك البهيمية، محتجاً في ذلك أنه يتبع طريق العقلانية الواضح الذي هو وحده عنوان الإنسانية؟ لكن لو كان ما يدعيه هذا الإنسان صحيحاً، فيا ترى كيف بالطريق العقلاني الذي يتبعه يفضي به إلى نقيض مقصوده؟”.
و هكذا فبحسب هذين الهرمين الكبيرين في الفكر و الثقافة فإن العلم يتطور اعتباطياً حتى دون معرفة العواقب الوخيمة التي قد تؤدي به إلى الإفساد في الأرض “سفك الدماء” الذي تنبأ به الملائكة منذ الأزل حتى قبل خلق أبيه آدم عليه السلام، فإن كان الأمر كذلك فلم خلق الله الإنسان بالرغم من علمه بالتناحر و التطاحن الذي قد يقع بين بني جنسه؟
يجيب الحق سبحانه الملائكة بأنه قد علَّم آدم الأسماء كلها، من ذلك يظهر لكل متدبر أن الأسماء كلها هي مفتاح الوصول إلى السلم و الهروب من التطاحن فأي أسماء هاته التي ستقينا ويلات الحروب وشرور سفك الدماء؟
إذا رجعنا إلى كتب التفسير ستحيلنا المصادر إلى أن المقصود من مصطلح الأسماء في الآية الكريمة أسماء الأشياء كالحمامة و الغراب و السماء و الأرض والصحفة و القدر إلا أننا نرى أنه إذا رجعنا لسياق الآية الكريمة حتى نفهم المراد سنجد أن السياق كان هو الجواب على إنكار الملائكة على الحق سبحانه خلق آدم الذي سيفسد في الأرض، و هو سياق أخلاقي بالدرجة الأولى مما ساقنا إلى استنتاج نجده في غاية الأهمية و هو أن الله سبحانه و تعالى لكي يبرهن على أفضلية آدم على الملائكة علمه أسماء الأشياء كلها و حاشاه عز و جل أن ينسى أسماء الأشياء المعنوية ، فإن كان علمه أسماء الأشياء الحسية كالسماء و الأرض و الحمامة و الغراب وغيرها فقد علمه أيضاً نسق القيم الأخلاقية من كرم و عدل و إيثار و حلم و أناة و غيرها.
إن صناعة السلام في عصرنا الراهن تجد راهنيتها من حاجة الإنسان الملحة إلى روح لهاته التقانة و قلب لهاته العولمة، لا أن يعيش وسط تقانة جوفاء و عولمة خواء، بمعنى أن تخليق و بناء الإنسان هو سبيل تلجيم التقانة و توجيهها لمصلحة الإنسانية لا لمصلحة كل دولة على حدة، ذلك أن صراع الإنسانية فيما بينها صراع مصالح بالدرجة الأولى ولن تجد الإنسانية السلم إلا ببناء الإنسان فرداً فردا ، فإن تم ذلك وصل إلى تخليق الدول و تلجيم جموح ركوب خيول المصالح بلجام القيم الأخلاقية الكونية المبثوثة أصلاً في “الذاكرة الأصلية للإنسان” و التي يقصد بها الدكتور طه عبد الرحمن في كتابه الجميل : “روح الدين” الفطرة، و الفطرة في نظرنا هي الأخلاق و المبادئ و الأسماء كلها التى علمها الله الإنسان في الأزل.
إن الرجوع الى الذاكرة الروحية للإنسان هو سبيل تحقيق السلم داخل الإنسان فإن تحقق السلم الداخلي الفردي تحقق بالضرورة السلم الجمعي ، و يحضرنا في هذا السياق حكمة عظيمة لمايدلر دليست نورمان حيث أبدع قائلاً “عندما تجد السلام في داخل نفسك، تصبح شخصاً من النوع الذي يمكن أن يعيش في سلام مع الآخرين ..”، ذلك أن الإنسانية في نظرنا مثل الجسد الواحد على كل أن يعرف دوره في هذا الجسد حتى يعيش هذا الأخير في صحة جيدة، و لا يتم ذلك إلا بالعروج الروحي و الفكري لفهم الظاهرة الإنسانية فإن تم ذلك عاش الجسد الكوني الإنساني و تناغم و صحة و في هذا المضمار نسوق حكمة أخرى مفكر علم الاجتماع جوستون بوتول الذي قال لا فض فوه : “السلم شيء سريع العطب تماماً مثل الصحة، فهو بحاجة إلى كثير من الظروف الملائمة و الإرادات الحسنة المتظافرة.
Post a Comment
ضع تعليقك هنا