اقرا ايضا


الرؤى الديالكتيكية والمعرفية في «صَحائِفُ التَّكْوين» للمغربي محمد بازي

                                                                                              - عبد السلام دخان



   يواصل محمد بازي مساهمته الرصينة في المنجز النقدي والبحثي العربي عبر كتاب جديد موسوم بـ»صحائف التكوين»، الصادر حديثا عن منشورات ضفاف (بيروت) والاختلاف (الجزائر) وكلمة (تونس) ودار الأمان (المغرب). ويعد هذا العمل البحثي استمرارا للجهد الذي بذله الباحث الأكاديمي محمد بازي من خلال منجزه النقدي عبر أعماله السابقة من قبيل: «التَّأويليةُ العربية : نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات، تقابلاتُ النَّص وبلاغةُ الخطاب، نحو تأويل تقابلي، والعُنْوان في الثقافةِ العربية، التَّشْكيل ومسالكُ التَّأويل، ونَظَريَّةُ التَّأْويلِ التَّقابُلي، مُقَدِّماتٌ لِمَعْرِفَةٍ بَديلَةٍ بالنَّصِّ والخِطاب، البنى التقابلية خرائط جديدة لتحليل الخطاب». مما أهله للحصول على جائزة المغرب للكتاب كجائزة رفيعة تعكس مدى الترحاب الذي قوبلت به مختلف أعماله الأكاديمية.

      ويأتي كتابه الجديد «صَحائِفُ التَّكْوين» خلاصات لتجربته في تكوين أساتذة اللغة العربية، وقد عبر عن دواعي تأليف هذا الكتاب بقوله: «دفعني الواقع الحالي للتعليم في البلدان العربية للكتابة في هذا الموضوع، فارتأيت بسط تصوراتي حول تحطم النماذج القيادية، وافتقاد بوصلة المرجعية في الأنظمة التربوية عمليا لا تصوريا، واندثار معالم النموذج الإنساني الذي نريده من التكوين والتعليم عموما: ما نموذج المدرس الذي نريده؟ وما هي معالم نموذج التلميذ الذي نريد فعلا حتى نتمثله ونشارك في صناعته؟ وهل لدينا تصور موحد عن نموذج المدرسة التي نريد؟ وعن نموذج المؤهلات التي نريد تحقيقها في المتعلمين والتي تناسب حاجيات الحياة الراهنة والمستقبلية؟». 

     وسعيا منه للبحث عن مسارات تحقق التفوق المهني والمعرفي، والبحث عن استراتيجية تكوينية قدم محمد بازي كتابه انطلاقا من أسئلة توجيهية دقيقة ترتبط بسؤال المقصدية الذي يترجم رغبة الكاتب في صناعة إنسان يملك بُعدَ نَظر يدفع بمجتمعه نحو قيم النبل والخير والسمو بكل سماحة وإشراقة نفس، مدركا أن وجوده على الأرض ليس إلا لتحقيق العبودية لله مصداقا لقوله تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»، ذاك هو نموذج الإنسان الذي نشترك جميعا في صناعته معرفيا وخلقيا، فيقضي وقته منشغلا ببناء ذاته، وتنمية مجتمعه بكل تفان وتسامح واعتدال. وسؤال المرجع الذي يستحضر الأصول الأساس المساهمة في صناعة التكوين. 
كمحاولة من لدن الباحث للاستفادة من مقومات الوحي الرباني، واستكمال عناصر هذا التكوين من الاجتهادات الإنسانية ومن التجارب العملية المدونة، والشفوية والملحوظة.
ومن بين الأسئلة الأخرى الموجهة لهذا الكتاب سؤال تحطم النماذج ارتباطا بتراجع أداء المدرسين، ومحو صورة المدرس القيادي المتعلق روحيا باللغة العربية. فضلا عن سؤال الخطاب، وعلى نحو خاص خطاب المدرس الذي يتكون من مجموع المعاني الظاهرة والباطنة التي تحملها رسائله اللغوية وغير اللغوية، سواء تلك التي موضوعها التعليم والتعلم، أو المعرفة، أو ضبط الفصل وإنشاء التعاقدات التنظيمية والتدبيرية، أو العبارات المصاحبة للنقطة. ولأن الخطاب قوة تبني الإنسان أو تحطمه، مثلما يمكنها أن تبني العالم أو تدمره، فقد خصص الباحث محمد بازي فقرات من الكتاب لبيان بعض مظاهر اختلال خطاب المدرسين، مبينا أهمية العناية به أثناء إعداد المدرسين. فما وجوه سداد خطاب المدرس؟ وكيف ينبغي أن تكون سيماء خطابه مع طلبته في سائر أحواله؟ وكيف يمكننا أن نستثمر المرجعية الربانية العظيمة في تحقيق سداد الخطاب؟
ويجعلنا سؤال واقعية النموذج المقترح نرصد السمات الأساس لهذا لتصور التكوين ومنها التربية الذاتية المستمرة التي تضع المدرس موضع تطوير وتحسين مستمر، وموضع تقويم يومي، وما ينتج عنه من مغالبة السلبيات والإيجابيات، إلى أن تتقوى الكفاءات والمهارات والأخلاقيات المهنية الإيجابية، وتتحول إلى خطاب لغوي وخطاب عملي تظهر آثاره المباشرة على المتعلمين، فيتحولون إلى قوى إنسانية حية فاعلة ومؤثرة إيجابيا في ما حولها. أما مرجعيات التكوين المعتمدة حاليا تبعا لتصور الباحث محمد بازي، «فهي تركز في الأغلب على الكيفيات العملية، التي تسمح بتكوين المدرس تقنيا فحسب: التخطيط والتدبير والتقويم والبحث التربوي، في ظرف سنة من التكوين، ولا تشير إلى الفلسفة العميقة والروح المستمرة التي ينبغي أن تظل هاجس تطوير الكفاءات المهنية، ولذلك كنا نؤكد باستمرار على تحريك الجانب الروحي عبر التأثير في المتدربين، فإذا حصل تَشَرُّب معاني التدريس وحب المهنة، وتحولت المعاني إلى قوى داخلية نفسية محركة، فإن بقية الكفاءات والمهارات تنقاد تلقائيا وتِباعا بالعمل والبحث» وبموجب ذلك فإن التكوين لا يقوم على مُدخلات تكوينية، ووسائل وبرنامج ومحطات تدريبية ومسوغات رئيسة أو ثانوية أو تكميلية، ثم مخرجات نهائية فحسب، لأن مثل هذا النموذج يجعل التكوين عملية شبيهة بالصناعة الآلية للمدرسين، وليس الأمر كذلك لأن التكوين بالنسبة للمتدرب تجربة روحية أولا، ثم علمية ومعرفية وعملية، ومن ثمة لا بد من خطاب تكويني يخاطب البواطن وأعماق المدرس المتدرب حتى يشعر بحقيقة تحوله إلى صانع لمعاني الحياة داخل النفوس البشرية.

إن الغنى المعرفي والديداكتيكي لهذا الكتب تترجمه الرؤى العميقة المكونة لمرجعيات هذا العمل البحثي، وتعكسه بدقة مكوناته انطلاقا من أسئلة التكوين والنموذج، والمهنية، والمقصدية، والمرجع، وتحطم النماذج، والخطاب، واقعية النموذج المقترح، فضلا عن أسئلة تكون مسارات الصحيفة الثانية من قبيل:» الحاجة إلى نظرية الفهم والتمثل والاستيعاب، والحاجة إلى معرفة نظريات القراءة وضوابط التأويل، والحاجة إلى معرفة أصول الخطاب النقدي، والحاجة إلى مَلَكات التنشيط الفصلي والمؤَسسي، والحاجة إلى تنويع طرائق تدريس اللغة والبلاغة، والحاجة إلى ضبط منهجية تدريس المكونات، والحاجة إلى جعل التقنيات الحديثة وسيلة لغاية لا غاية، والحاجة إلى تكوين رؤية شمولية ونسقية عن تداخل المرجعيات ،الحاجة إلى معرفة الأنساق الصوتية. وتحمل الصحيفة الثالثة تمثلات عديدة ودقيقة لطرائق التكوين، أما الصحيفة الرابعة فتركزعلى خطابات منها: خطاب المدرس، واختصت الصحيفة الخامسة بخطاب التجربة، لينتهي محمد بازي في الصحيفة السادسة إلى تقديم مقترحات عملية حوارية تراعي حاجيات المدرس، فضلا عن الملحق المهم الذي تتضمنه الصحيفة السابعة، والخاتمة التي تعكس قوة اللغة العربية مستقبلا وأهمية العلم بها وتعليمها.

أعمال أخرى للكاتب 




كتابة تعليق

ضع تعليقك هنا

Previous Post Next Post